فصل: حكم بيع المسلم المصحف وشرائه له

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


معنى بدوّ الصّلاح

71 - فسّر الفقهاء بدوّ الصّلاح بمعان شتّى‏:‏

فالحنفيّة قالوا في تفسيره‏:‏ أن تؤمن العاهة والفساد، وإن كان بعضهم - كالكرلانيّ - فسّره بأن تصلح الثّمرة لتناول بني آدم، وعلف الدّوابّ‏.‏ والمالكيّة فسّروه تفسيراً مختلفاً نسبيّاً‏:‏ فهو في التّمر‏:‏ أن يحمرّ ويصفرّ ويزهو، وفي العنب‏:‏ أن يسودّ وتبدو الحلاوة فيه، وفي غيرهما من الثّمار‏:‏ حصول الحلاوة، وفي الخسّ والعصفر‏:‏ أن ينتفع بهما، وفي سائر البقول‏:‏ أن تطيب للأكل، وفي الزّرع والحبّ‏:‏ أن ييبس ويشتدّ‏.‏

وأرجع الشّافعيّة بدوّ الصّلاح في الثّمر وغيره كالزّرع، إلى ظهور مبادئ النّضج والحلاوة، فيما لا يتلوّن منه، أمّا فيما يتلوّن فبأن يأخذ في الحمرة أو السّواد أو الصّفرة‏.‏ وذكروا ثماني علامات يعرف بها بدوّ الصّلاح‏.‏

أحدها‏:‏ اللّون، في كلّ ثمر مأكول ملوّن، إذا أخذ في حمرة، أو سواد أو صفرة، كالبلح والعنّاب والمشمش والإجّاص‏.‏

ثانيها‏:‏ الطّعم، كحلاوة القصب وحموضة الرّمّان‏.‏

ثالثها‏:‏ النّضج واللّين، كالتّين والبطّيخ‏.‏

رابعها‏:‏ بالقوّة والاشتداد، كالقمح والشّعير‏.‏

خامسها‏:‏ بالطّول والامتلاء، كالعلف والبقول‏.‏

سادسها‏:‏ الكبر كالقثّاء، بحيث يؤكل‏.‏

سابعها‏:‏ انشقاق أكمامه، كالقطن والجوز‏.‏

ثامنها‏:‏ الانفتاح، كالورد‏.‏ وما لا أكمام له كالياسمين، فظهوره، ويمكن دخوله في الأخير‏.‏ ووضع له القليوبيّ هذا الضّابط، وهو‏:‏ بلوغ الشّيء إلى صفة أي حالة يطلب فيها غالباً‏.‏ ووضع الحنابلة هذا الضّابط‏:‏ ما كان من الثّمرة يتغيّر لونه عند صلاحه، كثمرة النّخل والعنب الأسود والإجّاص، فبدوّ صلاحه بتغيّر لونه، وإن كان العنب أبيض فصلاحه بتموّهه، وهو‏:‏ أن يبدو فيه الماء الحلو ويلين ويصفرّ لونه‏.‏ وإن كان ممّا لا يتلوّن كالتّفّاح ونحوه، فبأن يحلو ويطيب‏.‏ وإن كان بطّيخاً أو نحوه، فبأن يبدو فيه النّضج‏.‏ وإن كان ممّا لا يتغيّر لونه، ويؤكل طيّباً صغاراً وكباراً، كالقثّاء والخيار، فصلاحه بلوغه أن يؤكل عادةً‏.‏ وحكمة النّهي عن بيع الثّمر قبل بدوّ صلاحه‏:‏ هي خوف تلف الثّمرة، وحدوث العاهة عليها قبل أخذها‏.‏ وثبت في حديث أنس رضي الله عنه «أرأيت إذا منع اللّه الثّمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه ‏؟‏»‏.‏

حكم بيع الثّمر قبل بدوّ صلاحه

72 - جمهور الفقهاء - بوجه عامّ - على أنّ بيع الثّمر قبل بدوّ صلاحه، غير جائز ولا صحيح‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث‏.‏ ومع ذلك فقد فصّلوا فيه القول، تبعاً لتقييد العقد بشرط وإطلاقه، ولا يخلو بيع الثّمرة من هذه الأحوال‏:‏

الأولى‏:‏ أن يبيعها قبل الظّهور والبروز، أي قبل انفراك الزّهر عنها وانعقادها ثمرةً، فهذا البيع لا يصحّ اتّفاقاً‏.‏

الثّانية‏:‏ أن يبيعها بعد الظّهور، قبل بدوّ الصّلاح، بشرط التّرك والتّبقية على الشّجر حتّى تنضج، فلا يصحّ هذا البيع إجماعاً، لأنّه شرط لا يقتضيه العقد، وهو شغل ملك الغير‏.‏ أو هو صفقة في صفقة أو هو إعارة أو إجارة في بيع‏.‏ وعلّله ابن قدامة بالنّهي عنه في الحديث المذكور، والنّهي يقتضي الفساد‏.‏ قالوا‏:‏ ومثل بيع الثّمرة قبل بدوّ الصّلاح بشرط التّرك، بيع الزّرع قبل أن يشتدّ‏.‏

الثّالثة‏:‏ أن يبيعها بعد الظّهور، قبل بدوّ الصّلاح بشرط القطع في الحال، فهذا البيع صحيح بالإجماع، ولا خلاف في جوازه، وعلّله الحنابلة بأنّ المنع من البيع قبل بدوّ الصّلاح، إنّما كان خوفاً من تلف الثّمرة، وحدوث العاهة عليها قبل أخذها، بدليل حديث أنس المارّ، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيه‏:‏ «أرأيت إذا مَنَعَ اللّه الثّمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه ‏؟‏» وهذا مأمون فيما يقطع، فصحّ بيعه كما لو بدا صلاحه‏.‏

قالوا‏:‏ والإجماع على صحّة البيع في هذه الحال، مخصّص لعموم المنع في مفهوم الحديث السّابق‏.‏ وفارق ما بعد بدوّ الصّلاح، لأمن العاهة فيه غالباً، بخلاف ما قبل بدوّ الصّلاح، وبهذا الفارق يشعر الحديث الوارد في وضع الجوائح، وهو‏:‏ «لو بعت من أخيك تمراً، فأصابته جائحة ‏(‏أي آفة أهلكت الثّمرة‏)‏ فلا يحلّ لك أن تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حقّ»‏.‏

73 - غير أنّ الفقهاء قيّدوا هذا الحكم، وهو جواز بيع الثّمرة قبل بدوّ صلاحها بشرط القطع في الحال، بقيود بعضها متّفق عليه، وبعضها انفرد به فريق من الفقهاء، نشير إليها فيما يلي‏:‏

الشّرط الأوّل‏:‏ أن يكون الثّمر منتفعاً به‏:‏

أ - فالحنفيّة - في الأصحّ من مذهبهم - وكذا المالكيّة على إطلاق الانتفاع به، وصرّح الحنفيّة بشمول الانتفاع لما هو في الحال أو في الزّمان الثّاني، وهو المآل، أو في ثاني الحال - كما يعبّرون‏.‏ فمثل القصيل ‏(‏وهو الفصفصة الّتي يعلف بها الحيوان‏)‏ والحصرم ممّا يجوز بيعه، لانتفاع الحيوان وانتفاع الإنسان به‏.‏

ب - والشّافعيّة والحنابلة، قيّدوا الجواز بالانتفاع به في الحال، وزاد الشّافعيّة تقييد المنفعة بأن تكون مقصودة لغرض صحيح، وإن لم يكن بالوجه الّذي يراد بالانتفاع به منه كما في الحصرم، بخلاف الكمّثرى، لأنّ قطعه في الحال إضاعة مال - كما علّله المالكيّة - وبخلاف ثمرة الجوز، وزرع التّرمس، فإنّه لا يصحّ بيعه بالشّرط المذكور نفسه، لعدم النّفع بالمبيع - كما علّله الحنابلة‏.‏

الشّرط الثّاني‏:‏ أن يحتاج إليه المتبايعان أو أحدهما‏.‏

الشّرط الثّالث‏:‏ أن لا يكثر ذلك بين النّاس، ولا يتمالؤوا عليه‏.‏

وهذان الشّرطان نصّ عليهما المالكيّة، فإن تخلّف واحد، منع البيع، كما يمنع بشرط التّبقية المارّ أو الإطلاق، كما يأتي‏.‏

الشّرط الرّابع‏:‏ نصّ عليه الحنابلة، وهو أن لا يكون ما بيع قبل بدوّ صلاحه مشاعاً، بأن يشتري نصف الثّمرة قبل بدوّ صلاحها مشاعاً بشرط القطع، وذلك لأنّه لا يمكنه قطع ما يملكه، إلاّ بقطع ما لا يملكه، وليس له ذلك‏.‏

74 - وقد أجاز الفقهاء أيضاً، إضافةً إلى هذه الصّورة الجائزة، وهي بيع ما لم يبد صلاحه بشرط القطع في الحال، هذه الصّور‏:‏

- 1 - أن يبيع الثّمرة الّتي لم يبد صلاحها مع الشّجر، أو الزّرع الأخضر مع الأرض، ولا يختلف فيها الفقهاء، لأنّ الثّمر فيها والزّرع تابعان للشّجر والأرض، اللّذين لا تعرض لهما عاهة، كما يقول الشّافعيّة‏.‏

- 2 - أن يبيع الثّمرة لمالك الأصل وهو الشّجر، أو يبيع الزّرع لمالك الأرض، لأنّه إذا بيع مع أصل دخل تبعاً في البيع، فلم يضع احتمال الغرر فيه، كما احتملت الجهالة في بيع اللّبن في الضّرع مع الشّاة‏.‏ نصّ على هذه الصّورة الحنابلة، كما نصّ على الأولى الجميع، وزاد المالكيّة الصّورة التّالية‏:‏

- 3 - أن يبيع الأصل، وهو الشّجر أو الأرض، ثمّ بعد ذلك بفترة ما، قربت أو بعدت، وقبل خروجهما من يد المشتري، يلحق الثّمر أو الزّرع بالأصل المبيع قبله‏.‏

75 - الرّابعة من أحوال بيع الثّمرة‏:‏ أن يبيعها بعد بدوّ الصّلاح - على الخلاف في تفسيره‏:‏ بظهور النّضج والحلاوة والتّموّه ونحوها عند الجمهور‏.‏ وبأمن العاهة والفساد عند الحنفيّة ولا خلاف في جواز البيع في هذه الحال كما هو نصّ ابن الهمام، ومفهوم الحديث أيضاً عند من يقول بالمفهوم‏.‏

وسيأتي بعض التّفصيل المذهبيّ فيما إذا تناهى عظم الثّمرة أو لم يتناه‏.‏

غير أنّ المالكيّة قيّدوا الجواز في هذه الحال - زيادةً على بدوّ الصّلاح بتفسيره عندهم - بأن لا يستتر بأكمامه، كالبلح والتّين والعنب، والفجل والكرّات والجزر والبصل‏.‏ فهذا النّوع يجوز بيعه جزافاً، ووزناً بالأولى‏.‏

أمّا ما استتر بأكمامه - أي بغلافه - كالقمح في سنبله، فإنّه لا يجوز بيعه وحده جزافاً، ويجوز كيلاً‏.‏ وإن بيع بقشره أي تبنه، جاز جزافاً وكذا كيلاً بالأولى‏.‏

أمّا ما استتر بورقه كالفول، فلا يجوز بيعه جزافاً، لا منفرداً ولا مع ورقه، ويجوز كيلاً‏.‏

76 - الخامسة‏:‏ أن يبيع الثّمرة قبل بدوّ الصّلاح مطلقاً، فلا يشترط قطعاً ولا تبقيةً، وهذه الصّورة محلّ خلاف بين الفقهاء‏:‏

- أ - فعند الشّافعيّة والحنابلة، والقول المعتمد عند المالكيّة - وإن صرّح ابن جزيّ بأنّ فيه قولين - أنّ بيعها كذلك باطل‏:‏ لإطلاق النّهي في الحديث المذكور عن بيع الثّمرة قبل بدوّ صلاحها، ولأنّ العاهة تسرع إليه حينئذ، لضعفه، فيفوت بتلفه الثّمن،من غير مقابل‏.‏ - ب - وفصّل الحنفيّة في هذه المسألة، فقرّروا أنّه‏:‏

إن كان الثّمر بحال لا ينتفع به في الأكل ولا في علف الدّوابّ، ففيه خلاف بين المشايخ‏:‏ قيل‏:‏ لا يجوز، ونسبه قاضي خان لعامّة مشايخ الحنفيّة للنّهي، ولأنّ البيع يختصّ بمال متقوّم، والثّمر قبل بدوّ الصّلاح ليس كذلك‏.‏

والصّحيح‏:‏ أنّه يجوز، لأنّه مال منتفع به في ثاني الحال ‏(‏أي المآل‏)‏ إن لم يكن منتفعاً به في الحال‏.‏ وإن كان بحيث ينتفع به، ولو علفاً للدّوابّ، فالبيع جائز باتّفاق أهل المذهب، إذا باع بشرط القطع، أو مطلقاً‏.‏ وقد نصّ المالكيّة أيضاً على جواز البيع قبل بدوّ الصّلاح في المسائل الثّلاث السّابقة‏.‏ وذكر بعض الفقهاء، كالحنفيّة والحنابلة، هذه الصّورة أيضاً‏.‏ 77 - السّادسة‏:‏ إذا اشترى الثّمرة، وقد بدا صلاحها ونضجها، ولم يتناه عظمها، وشرط التّرك والتّبقية إلى أن يتناهى عظمها‏:‏

- أ - فمذهب الجمهور - كما ينصّ ابن قدامة - جواز البيع في هذه الصّورة، بل جوازه بإطلاق‏.‏ - لأنّ الحديث نهى عن بيع الثّمرة حتّى يبدو صلاحها، فمفهومه إباحة بيعها بعد بدوّ صلاحها، والمنهيّ عنه قبل بدوّ الصّلاح عندهم البيع بشرط التّبقية، فيجب أن يكون ذلك جائزاً بعد بدوّ الصّلاح، وإلاّ لم يكن لبدوّ الصّلاح غاية، ولا فائدة في ذكره‏.‏

- «ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثّمرة حتّى يبدو صلاحها، وتأمن العاهة» وتعليله بأمن العاهة يدلّ على التّبقية، لأنّ ما يقطع في الحال لا يخاف العاهة عليه، وإذا بدا الصّلاح فقد أمنت العاهة، فيجب أن يجوز بيعه مبقًى، لزوال علّة المنع‏.‏

ولأنّ النّقل والتّحويل يجب في المبيع بحكم العرف، فإذا شرطه جاز، كما لو شرط نقل الطّعام من ملك البائع‏.‏

- ب - والحنفيّة قرّروا مفصّلين في هذه المسألة‏:‏ إذا شرط التّرك، ولم يتناه العظم والنّضج، فقد شرط فيه الجزء المعدوم، وهو الّذي يزيد بمعنًى من الأرض والشّجر، وهذه الزّيادة تحدث بعد البيع من ملك البائع، فكأنّه ضمّ المعدوم إلى الموجود، واشتراهما، فيفسد العقد‏.‏ وإذا شرط التّرك، وقد تناهى عظمها، فكذلك الحكم عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وهو أنّه يفسد العقد أيضاً، وهو القياس، لأنّه شرط لا يقتضيه العقد، وهو شغل ملك غيره، ولأحد المتعاقدين فيه منفعة، ومثله يفسد العقد، وهذا لأنّه يحصل في المبيع زيادة جودة وطراوة، وللمشتري فيه نفع‏.‏

وأمّا محمّد بن الحسن فقد استحسن في هذه الصّورة، وقال كما قال الأئمّة الثّلاثة‏:‏ لا يفسد العقد، لتعارف النّاس ذلك، بخلاف ما إذا لم يتناه عظمها، لأنّه شرط في الجزء المعدوم‏.‏ ومع أنّ البابرتيّ والكرلانيّ، من شرّاح الهداية، لم يسلّما بالتّعامل في اشتراط التّرك، بل قرّرا أنّ المعتاد هو التّرك بلا شرط، والإذن في تركه بلا شرط في العقد، لا شرط التّرك‏.‏ ففي نقل الكرلانيّ عن الأسرار أنّ الفتوى على قول محمّد، وهو الّذي اختاره الطّحاويّ، لعموم البلوى‏.‏

78 - وإذا اشترى الثّمرة مطلقاً، فلم يشترط التّرك ولا القطع، ولم يتناه عظمها، ثمّ تركها‏:‏ فإن كان التّرك بإذن مجرّد من البائع، طاب له الفضل والأكل‏.‏ وإن كان التّرك بإذن في ضمن الإجارة، بأن استأجر الأشجار إلى وقت الإدراك، طاب له الفضل أيضاً، لأنّ الإجارة باطلة، لعدم التّعارف بين النّاس على استئجار الأشجار، ولعدم حاجة المشتري إلى استئجار الأشجار، لأنّه يمكنه شراء الثّمار مع أصولها، والأصل في القياس بطلان الإجارة، وأجيزت شرعاً للحاجة فيما فيه تعامل، ولا تعامل في إجارة الأشجار المجرّدة، فبقي الإذن‏.‏ أمّا لو تركها بغير إذنه، فإنّه يتصدّق بما زاد في ذاته، لحصوله بجهة محظوره، وهي حصولها بقوّة الأرض المغصوبة، فيقوّم ذلك قبل الإدراك وبعده، ويتصدّق بفضل ما بينهما‏.‏ أمّا إذا اشترى الثّمرة بعدما تناهى عظمها، وتركها، فإنّه لا يلزمه أن يتصدّق بشيء، لأنّ هذا تغيّر حالة، لا تحقّق زيادة‏.‏

هل يشترط لصحّة بيع الثّمر بدوّ صلاح كلّه‏؟‏

79 - يمكن القول بوجه عامّ، أنّه يكفي لصحّة البيع بدوّ صلاح بعضه – وإن قلّ – لبيع كلّه، بشرط اتّحاد العقد والجنس والبستان، والحمل عند بعض الفقهاء - كالشّافعيّة - أو الجنس عند آخرين - كالمالكيّة - وإن شرط بعضهم خلافاً لآخرين صلاح كلّه، فلا يجوز عنده إلاّ بيع ما بدا صلاحه‏.‏ وفي المسألة تفصيل نذكره فيما يلي‏:‏

أوّلاً‏:‏ إن كانت شجرة واحدة، وبدا الصّلاح في بعض ثمرها، جاز بيع جميعها بذلك، قال ابن قدامة‏:‏ ولا أعلم فيه اختلافاً‏.‏

ثانياً‏:‏ وإن بدا الصّلاح في شجرة واحدة، فهل يجوز بيع سائر ما في البستان من ذلك النّوع ‏؟‏ فيه قولان‏:‏ الأوّل‏:‏ مذهب الجمهور، ومنهم مالك والشّافعيّ ومحمّد بن الحسن، وهو الأظهر من مذهب الحنابلة‏:‏ أنّه يجوز بيع جميع الثّمر من ذلك النّوع، ووجهه‏:‏

- أنّه بدا الصّلاح من نوعه من البستان الّذي هو فيه، فجاز بيع جميعه، كالشّجرة الواحدة‏.‏ - وأنّ اعتبار بدوّ الصّلاح في جميعه يشقّ، ويؤدّي إلى الاشتراك واختلاف الأيدي، فوجب أن يتبع الّذي لم يبد صلاحه ما بدا صلاحه‏.‏ والمالكيّة شرطوا في هذه الصّورة، أن لا تكون النّخلة باكورةً، وهي الّتي تسبق بالزّمن الطّويل، بحيث لا يحصل معه تتابع الطّيّب، فإن كانت باكورةً لم يجز بيع ثمار البستان بطيّبها، ويجوز بيعها وحدها‏.‏

الآخر‏:‏ هو رواية عن الإمام أحمد - وهو المتبادر من كلام الحنفيّة، والمعتمد عند الشّافعيّة - أنّه لا يجوز إلاّ بيع ما بدا صلاحه‏.‏

لأنّ ما لم يبد صلاحه داخل في عموم النّهي، ولأنّه لم يبد صلاحه، فلم يجز بيعه من غير شرط القطع، فأشبه الجنس الآخر، وأشبه الجنس الّذي في البستان الآخر - كما سيأتي -

80 - ثالثاً‏:‏ إن بدا الصّلاح في شجرة واحدة، أو أشجار من نوع ما، فهل يجوز بيع ما في البستان من نوع آخر من ذلك الجنس ‏؟‏ في هذه الصّورة أوجه‏:‏

الوجه الأوّل‏:‏ لبعض أصحاب الشّافعيّ، هو قول القاضي من الحنابلة، أنّه لا يتبعه، قرّر ابن قدامة أنّه الأولى، وذلك‏:‏

- لأنّ النّوعين قد يتباعد إدراكهما، فلم يتبع أحدهما الآخر في بدوّ الصّلاح، كالجنسين‏.‏

- ولأنّ المعنى هنا هو تقارب إدراك أحدهما من الآخر، ودفع الضّرر الحاصل بالاشتراك، واختلاف الأيدي، ولا يحصل ذلك في النّوعين، فصارا في هذا كالجنسين‏.‏

الوجه الثّاني‏:‏ لمحمّد بن الحسن، وهو أنّ ما كان متقارب الإدراك، فبدوّ صلاح بعضه يجوز به بيع جميعه، وإن كان يتأخّر إدراك بعضه تأخّراً كثيراً، فالبيع جائز فيما أدرك، ولا يجوز في الباقي‏.‏

الوجه الثّالث‏:‏ لبعض أصحاب الشّافعيّ، ولأبي الخطّاب من الحنابلة، وهو أنّه يجوز بيع ما في البستان من ذلك الجنس، قاسوه على إكمال النّصاب في الزّكاة، فإنّ الجنس الواحد يضمّ بعضه إلى بعض في التّكميل، فيتبعه في جواز البيع، ويصبح كالنّوع الواحد‏.‏

81 - رابعاً‏:‏ إن بدا صلاح الثّمر في أحد بستانين ‏(‏متقاربين‏)‏ من دون الآخر، وقد باعهما في عقد واحد، والثّمرة من نوع واحد، ففيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ مذهب مالك، وقول للشّافعيّة، وهو رواية عن الإمام أحمد‏:‏ أنّ بدوّ الصّلاح في شجرة من القراح ‏(‏المزرعة‏)‏ صلاح له ولما قاربه وجاوره، فيتبعه، وذلك‏:‏ لأنّهما يتقاربان في الصّلاح، فأشبها القراح الواحد‏.‏ ولأنّ المقصود الأمن من العاهة، وقد وجد‏.‏ ولاجتماعهما في صفقة واحدة‏.‏ والمالكيّة فسّروا القرب هنا والجوار، بتلاحق الطّيّب بالطّيّب عادةً، أو بقول أهل المعرفة‏.‏

وابن كنانة منهم عمّم الحكم في البساتين، وإن كان ممّا لا يتلاحق طيّبة بطيّبة‏.‏

وابن القصّار عمّم الحكم في غير المتجاورات من البساتين، فشمل البلد‏.‏

ولهم قولان في اشتراط تلاصق البساتين، لكنّهم استظهروا أنّه لا يشترط أن تكون البساتين المجاورة ملكاً لصاحب البستان الّذي فيه الشّجرة الباكورة الّتي بدا صلاحها‏.‏ لكنّهم قصروا هذا الحكم على الثّمار، ومثلها المقثأة، أمّا الزّروع فلا بدّ فيها من يبس جميع الحبّ‏.‏

الآخر‏:‏ أن لا يتبع أحد البستانين الآخر، وهذا هو الأصحّ والمعتمد عند الشّافعيّة، وهو المذهب عند الحنابلة، ولو كانا متقاربين، وذلك‏:‏

- لأنّ من شأن اختلاف البقاع اختلاف وقت التّأبير - كما يقول الشّافعيّة - فلا بدّ من شرط القطع في البستان الآخر‏.‏

- أنّ إلحاق ما لم يبد صلاحه بالّذي بدا صلاحه، هو لدفع ضرر الاشتراك، واختلاف الأيدي، وهذا الضّرر منتف في البستان الآخر، فوجب امتناع التّبعيّة، كما هو الشّأن في البستانين المتباعدين‏.‏

82 - خامساً‏:‏ إن بدا الصّلاح في جنس من الثّمر، لم يكف في حلّ بيع ما لم يبد صلاحه من جنس آخر، فبدوّ صلاح البلح لا يكفي في حلّ بيع نحو العنب، وإذا كان في البستان عنب ورمّان، فبدا صلاح العنب، لا يجوز بيع الرّمّان حتّى يبدو صلاحه - نصّ على هذا المالكيّة، وهو متّفق عليه، فلو باع كذلك وجب شرط القطع في ثمر الآخر‏.‏

83 - ألحق الفقهاء المقاثي بالثّمر، في الاكتفاء ببدوّ بعضها، لجواز بيع كلّها، وذلك بأن تكبر وتطيب للأكل، وصرّح المالكيّة بأنّ هذا الحكم مختصّ بهما، فأمّا الزّرع فلا يكفي في حلّ بيعه يبس بعضه، بل لا بدّ من يبس جميع حبّه، وذلك‏:‏

- لأنّ حاجة النّاس لأكل الثّمار رطبةً للتّفكّه بها أكثر‏.‏

- ولأنّ الثّمر إذا بدا صلاح بعضه، يتبعه الباقي سريعاً غالباً، ومثله نحو القثّاء، بخلاف الزّرع، وليست الحبوب كذلك، لأنّها للقوت لا للتّفكّه‏.‏

وبقي الشّافعيّة والحنابلة على الأصل، وهو الاكتفاء في الحبّ ببدوّ صلاح بعضه وإن قلّ، بل صرّح ابن حجر بالاكتفاء باشتداد بعض الحبّ، ولو سنبلةً واحدةً، ووجهه‏:‏ أنّ اللّه تعالى امتنّ علينا بطيب الثّمار على التّدريج، إطالةً لزمن التّفكّه، فلو شرط طيب جميعه، لأدّى إلى أن لا يباع شيء، لأنّ السّابق قد يتلف، أو تباع الحبّة، بعد الحبّة، وفي كلّ حرج شديد‏.‏

84 - ولم يواجه الحنفيّة هذه المسألة، وهي اشتراط بدوّ صلاح كلّ الثّمر لصحّة بيعه، ولا التّفصيلات الّتي تندرج فيها، لأنّ مذهبهم في أصلها، وهو بيع الثّمر قبل بدوّ صلاحه ‏(‏وكذا الحبّ ونحوه‏)‏ أنّه إن كان بحيث ينتفع به، ولو علفاً للدّوابّ، فالبيع جائز باتّفاق أهل المذهب إذا باع بشرط القطع أو مطلقاً، ويجب قطعه على المشتري في الحال‏.‏

وكلّ الّذي تقدّم من خلاف الأئمّة الثّلاثة في اشتراط صلاح كلّ الثّمر، وصلاح كلّ الحبّ، إنّما هو فيما ينتفع به عند الحنفيّة، وكلّه جائز البيع عندهم‏.‏

وإنّما اختلف الحنفيّة فيما لا ينتفع به، أكلاً ولا علفاً، قبل بدوّ الصّلاح‏:‏ فذهب السّرخسيّ ‏(‏وشيخ الإسلام خواهر زاده‏)‏ إلى عدم الجواز في هذه الجزئيّة، للنّهي وعدم التّقوّم، والصّحيح في المذهب - والأصحّ عند المرغينانيّ - جواز بيعه أيضاً، لأنّه ينتفع به مآلاً، وإن لم ينتفع به حالاً، باعتباره مالاً‏.‏ لهذا لم يبحث الحنفيّة شرطيّة بدوّ صلاح كلّ الثّمر ولا بعضه ‏(‏وكذا الحبّ‏)‏ وعبارة متونهم في هذا صريحة، ونصّها‏:‏

ومن باع ثمرةً لم يبد صلاحها، أو قد بدا، جاز البيع، وعلى المشتري قطعها في الحال، وإن شرط تركها على النّخل فسد البيع، وقيل‏:‏ لا إذا تناهت، وبه يفتى‏.‏

بيع المتلاحق من الثّمر ونحوه

85 - ويتّصل ببيع الثّمر قبل بدوّ صلاحه - على الخلاف الّذي فيه - مسألة ما إذا باع ثمرةً قد بدا صلاحها، وكانت ممّا تطعم بطناً بعد بطن‏.‏ ويغلب تلاحق ثمرها، ويختلط ما يحدث منها بالموجود، كالتّين والقثّاء والبطّيخ، وكذا في الزّرع كالبرسيم ‏(‏وهو الفصفصة‏)‏ وكذا في الورد ونحوه، وتعرف بمسألة الثّمر المتلاحق، وفيها بعض الخلاف‏.‏

- أ - فمذهب جمهور الفقهاء، من الشّافعيّة والحنابلة، وظاهر الرّواية عند الحنفيّة، وهو الأصحّ عندهم قياساً‏:‏ أنّه لا يصحّ بيعه، وذلك‏:‏ لعدم القدرة على التّسليم لتعذّر التّمييز، فأشبه هلاكه قبل التّسليم، كما يقول المرغينانيّ والكمال من الحنفيّة، واقتصر على صدر التّعليل القاضي زكريّا الأنصاريّ من الشّافعيّة، وعلّله السّرخسيّ بأنّه جمع في العقد بين الموجود والمعدوم، والمعدوم لا يقبل البيع، وحصّة الموجود غير معلومة‏.‏

وعلّله الحنابلة بأنّه ثمرة لم تخلق، فلم يجز بيعها، كما لو باعها قبل ظهور شيء منها، والحاجة تندفع ببيع أصوله‏.‏ وما لم يخلق من ثمرة النّخل، لا يجوز بيعه تبعاً لما خلق، وإن كان ما لم يبد صلاحه يجوز بيعه تبعاً لما بدا صلاحه، لأنّ ما لم يبد صلاحه يجوز إفراده بالبيع في بعض الأحوال كما تقدّم، وأمّا ما لم يخلق فلا‏.‏

86 - ب - ومذهب مالك جوازه، وهو أيضاً ما أفتى به بعض الحنفيّة كالحلوانيّ وأبي بكر محمّد بن الفضل البخاريّ وآخرين استحساناً، وذلك بجعل الموجود أصلاً في العقد، وما يحدث بعده تبعاً له، من غير تقييد بكون الموجود وقت العقد أكثر‏.‏ ورجّحه ابن عابدين ووجّهه‏.‏ ووجه الاستحسان هو تعامل النّاس، فإنّهم تعاملوا ببيع ثمار الكرم بهذه الصّفّة، ولهم في ذلك عادة، وفي نزع النّاس من عادتهم حرج‏.‏

وقد روي عن الإمام محمّد - رحمه الله - أنّه أجاز بيع الورد على الأشجار، ومعلوم أنّ الورد لا يتفتّح جملةً، بل يتلاحق بعضه إثر بعض‏.‏ وبدا من هذا أنّ جواز بيع المتلاحقات هو من قبيل استحسان الضّرورة، عند من أفتى به من الحنفيّة‏.‏

والّذين ذهبوا مذهب الجمهور في عدم جواز هذا البيع تمسّكوا بالنّصوص، ونفوا الضّرورة هنا‏:‏ - لجواز أن يبيع البائع الأصول‏.‏

- أو يشتري المشتري الموجود ببعض الثّمن، ويؤخّر العقد في الباقي إلى وقت وجوده‏.‏

- أو يشتري الموجود بجميع الثّمن، ويبيح البائع للمشتري الانتفاع بما يحدث منه‏.‏

ولهذا قرّروا أنّه لا ضرورة إلى تجويز العقد في المعدوم مصادماً للنص، وهو‏:‏ النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان‏.‏وفي هذا يقول ابن عابدين رحمه الله تعالى‏:‏ لا يخفى تحقق الضرورة في زماننا، ولا سيما في مثل دمشق الشام، كثيرة الأشجار والثمار، فإنه لغلبة الجهل على الناس، لايمكن إلزامهم بالتخلص بأحد الطرق المذكورة، وإن أمكن ذلك بالنسبة إلى بعض أفراد الناس لا يمكن بالنسبة إلى عامتهم، وفي نزعهم عن عادتم حرج - كما علمت - ويلزم تحريم أكل الثمار في هذه البلدان، إذ لا تباع إلا كذلك‏.‏

والنبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص في السلم للضرورة، مع أنه بيع المعدوم، فحيث تحققت الضرورة هنا أيضاً، أمكن إلحاقه بالسلم بطريق الدلالة، فلم يكن مصادماً للنص، فلذا جعلوه من الاستحسان، لأن القياس عدم الجواز‏.‏ وظاهر كلام الفتح الميل

إلى الجواز، ولذا أورد له الرواية عن محمد، بل إن الحلواني رواه عن أصحابنا، وما ضاق الأمر إلا اتسع، ولا يخفى أن هذا مسوغ للعدول عن ظاهر الرواية‏.‏

87 - المالكية، القائلون بالجواز، قسموا هذه المتلاحقات، وهي ذات البطون، إلى قسمين‏:‏ - ما تتميز بطونه‏.‏ - وما لا تتميز بطونه‏.‏

والذي لا تتميز بطونه قسمان‏:‏ ماله آخر، وما لا آخر له‏.‏

وفيما يلي أحكامها‏:‏

أولاً‏:‏ما تتميز بطونه، وهو المنفصل غير المتتابع‏.‏ وذلك في الشجر الذي يطعم في السنة بطنين متميزين‏.‏ فهذا لا يجوز أن يباع البطن الثّاني بعد وجوده وقبل صلاحه ببدوّ صلاح البطن الأوّل، وإن كان لا ينقطع الأوّل حتّى يبدو طيب الثّاني‏.‏ وهذا هو المشهور عندهم‏.‏ وحكى ابن رشد قولاً بالجواز، بناءً على أنّ البطن الثّاني يتبع الأوّل في الصّلاح، لكن ابن جزيّ جعل عدم الجواز في هذه الصّورة اتّفاقاً‏.‏

ثانياً‏:‏ ما يخلف ويطعم بطناً بعد بطن، ولا تتميّز بطونه، وله آخر‏.‏ ‏(‏أي نهاية ينتهي إليها‏)‏ كالورد والتّين، وكالمقاثئ من الخيار والقثّاء والبطّيخ والجمّيز والباذنجان وما أشبه ذلك، فهذا يجوز بيع سائر البطون ببدوّ صلاح الأوّل‏.‏ قال ابن جزيّ‏:‏ خلافاً لهم، أي للأئمّة الثّلاثة‏.‏ فمن اشترى شيئاً من المذكورات، يقضي له بالبطون كلّها، ولو لم يشترطها في العقد‏.‏ ولا يجوز في هذا التّوقيت بشهر ونحوه، لاختلاف حملها بالقلّة والكثرة‏.‏

ثالثاً‏:‏ ما يخلف ويطعم بطناً بعد بطن، ولا تتميّز بطونه وهي متتابعة، لكن لا آخر ولا نهاية له، أي أنّ إخلافه مستمرّ، فكلّما قطع منه شيء خلفه غيره، وليس له آخر ينتهي إليه، وهو مستمرّ طول العام، كالموز - في بعض الأقطار - فهذا النّوع لا يجوز بيعه إلاّ بضرب من الأجل، وهو غاية ما يمكن، ولو كثر الأجل - على المشهور - خلافاً لابن نافع الّذي حصر الجواز بسنة واحدة، ولمن نفى الزّيادة على سنتين‏.‏

ومثل ضرب الأجل في الجواز، استثناء بطون معلومة‏.‏

ج - بيع السّنين‏:‏

88 - روى جابر رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السّنين»‏.‏ والمراد به أن يبيع ما سوف تثمره نخلة البائع سنتين أو ثلاثاً أو أكثر، وذلك لما فيه من الغرر، فهو أولى بالمنع من منع بيع الثّمار قبل أن يبدو صلاحها‏.‏

د - بيع السّمك في الماء‏:‏

89 - وممّا ورد النّهي عن بيعه للغرر‏:‏ السّمك في الماء‏.‏ وذلك في حديث ابن مسعود رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا تشتروا السّمك في الماء، فإنّه غرر»‏.‏ وجمهور الفقهاء متّفقون على أنّه لا يصحّ بيعه قبل اصطياده، كما لا يصحّ بيعه إذا صيد ثمّ ألقي في الماء بحيث لا يمكن أخذه إلاّ بمشقّة، وأنّه فاسد، لأنّه بيع ما لم يملك، وفيه غرر كثير فلا يغتفر إجماعاً، ولأنّه لا يقدر على تسليمه إلاّ بعد اصطياده، فأشبه الطّير في الهواء، كما أنّه مجهول فلا يصحّ بيعه، كاللّبن في الضّرع والنّوى في التّمر‏.‏

ومذهب الحنفيّة أنّه باطل - باصطلاحهم فيه - ومنهم من ذهب إلى أنّه فاسد، إذا بيع بعرض، لأنّ السّمك يكون حينئذ ثمناً والعرض مبيعاً، واذا دخلت الجهالة على الثّمن كان البيع فاسداً، ولم يكن باطلاً‏.‏ فإن بيع بالدّراهم والدّنانير فهو باطل، لعدم الملك في المبيع، إذ يتعيّن كون السّمك حينئذ مبيعاً، والدّراهم أو الدّنانير ثمناً‏.‏ وفيه صور من الجواز بشروط خاصّة وأحكام يرجع في تفصيلها إلى موطنه من مصطلح ‏(‏غرر‏)‏‏.‏

90 - ومثل بيع السّمك في الماء، بيع الطّير في الهواء، ولا يختلف الفقهاء في فساده‏.‏ وللحنفيّة - خلافاً للشّافعيّة والحنابلة - تفصيل بين ما إذا كان يرجع بعد الإرسال فيصحّ، وبين ما إذا كان لا يرجع بعد الإرسال، فلا يصحّ‏.‏

أمّا بيعه قبل صيده، فباطل عندهم، كما هو الإجماع‏.‏

وانظر بعض أحكامه، وتفصيلاته، وتعليلات الجواز وعدمه في مصطلح ‏(‏غرر، بيع‏)‏‏.‏

هـ - بيع العبد الآبق‏:‏

91 - ورد في الحديث عن أبي سعيد رضي الله عنه «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء العبد وهو آبق» فيحرم عند الجمهور بيعه في الجملة‏.‏

وأجاز الحنفيّة بيعه ممّن هو عنده، أو يقدر على أخذه‏.‏

وقيّد الشّافعيّة الجواز ببيعه لمن يقدر على ردّه بلا مشقّة لا تحتمل عادةً، وبلا مؤنة لها وقع‏.‏ وأطلق الحنابلة عدم الجواز، ولو علم مكانه أو قدر على تحصيله، فإن حصل في يد إنسان، جاز، لإمكان تسليمه‏.‏ وقيس عليه‏:‏ الجمل الشّارد، والفرس العاشر، والضّالّ إلاّ من يسهل عليه ردّه والمغصوب إلاّ لقادر على انتزاعه عند الشّافعيّة‏.‏ وبيعه من الغاصب صحيح قطعاً‏.‏ وهناك فروع كثيرة، تراجع في مصطلح‏:‏ ‏(‏بيع، غرر‏)‏‏.‏

و - بيع اللّبن في الضّرع‏:‏

92 - ورد في النّهي عنه حديث ابن عبّاس رضي الله عنه، قال‏:‏ «نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يباع ثمر حتّى يطعم، أو صوف على ظهر، أو لبن في ضرع، أو سمن في لبن»‏.‏ والشّوكانيّ يصرّح بأنّ الفقهاء مجمعون على فساده للحديث المذكور، وعلّلوه بأنّه مجهول الصّفّة والمقدار، فأشبه الحمل‏.‏

وتردّد الحنفيّة في القول بفساده لاختلاط الملكين، أو بطلانه للشّكّ في وجوده‏.‏

ووضع ابن الهمام من الحنفيّة لهذا وأمثاله ضابطاً، وهو‏:‏ أنّ كلّ ما بيع بغلافه لا يجوز باستثناء الحبوب في قشرها، وتفصيل أحكامه في ‏(‏بيع، غرر‏)‏‏.‏

ز - بيع الصّوف وهو على الظّهر‏:‏

93 - ورد فيه الحديث المتقدّم آنفاً‏.‏ ‏(‏ف‏)‏‏.‏ وممّن نصّ على فساده الحنفيّة، وهو المذهب عند الحنابلة‏.‏ وذهب أبو يوسف إلى جوازه، وهو رواية أيضاً عن الإمام أحمد، بشرط جزّه في الحال، وقال المرداويّ‏:‏ فيه قوّة‏.‏

وذهب المالكيّة إلى جوازه بشرط جزّه خلال أيّام قليلة كنصف شهر‏.‏

وحجّة القائلين بالفساد‏:‏ النّهي الوارد فيه، وأنّه من أوصاف الحيوان وهي لا تفرد بالبيع، واختلاط المبيع بغيره لأنّه ينبت من الأسفل، أو اتّصاله بالحيوان فلم يجز إفراده كأعضائه، أو الجهالة والتّنازع في موضع القطع‏.‏ وأبو يوسف - رحمه الله - يقيسه على بيع القصيل ‏(‏الفصفصة، أو البرسيم‏)‏ وفسّر بأنّه الشّعير يجزّ أخضر لعلف الدّوابّ‏.‏ وفيه تفصيلات وصور تراجع في مصطلح ‏(‏بيع، غرر، جهالة‏)‏‏.‏

ح - بيع السّمن في اللّبن‏:‏

94 - ورد في النّهي عنه حديث ابن عبّاس رضي الله عنه المتقدّم «‏.‏‏.‏‏.‏ أو سمن في لبن» ولا يصحّ هذا البيع، وذلك لاختلاط المبيع بغيره بحيث لا يمتاز عنه، وفيه جهالة وغرر، ثمّ هو من الأشياء الّتي في غلفها، والّتي لا يمكن أخذها وتسليمها إلاّ بإفساد الخلقة‏.‏

كما يقول ابن الهمام من الحنفيّة باستثناء الحبوب، فلا يصحّ بيعه‏.‏

ط - الثّنيا أو استثناء المجهول في البيع‏:‏

95 - ورد فيها حديث جابر رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «نهى عن المحاقلة، والمزابنة، والثّنيا، إلاّ أن تعلم» ومعنى الثّنيا‏:‏ الاستثناء، وهي في البيع‏:‏ أن يبيع شيئاً ويستثني بعضه، فإن كان المستثنى معلوماً، كشجرة معلومة من أشجار بيعت، صحّ البيع‏.‏ وإن كان مجهولاً كبعض الأشجار، لم يصحّ‏.‏

فوضع الفقهاء لذلك هذه القاعدة، وهي‏:‏ أنّ ما جاز إيراد العقد عليه بانفراده صحّ استثناؤه منه‏.‏ وعلّق عليها ابن عابدين قوله‏:‏ هذه قاعدة مذكورة في عامّة المعتبرات، مفرّع عليها مسائل‏.‏ وأشار الشّافعيّة أيضاً إلى هذه القاعدة، وكذا الحنابلة، وسمّاها صاحب الشّرح الكبير ضابطاً‏.‏ فقال‏:‏ وضابط هذا الباب أنّه لا يصحّ استثناء ما لا يصحّ بيعه منفرداً‏.‏

96 - وإليك بعض التّطبيقات‏:‏

- أ - لو باع هذا القطيع إلاّ شاةً غير معيّنة، لم يصحّ في قول أكثر أهل العلم، وذلك للحديث المذكور في النّهي عن بيع الثّنيا إلاّ أن تعلم، ولأنّه مبيع مجهول فلم يصحّ، فصار كما لو قال‏:‏ بعتك شاةً تختارها من هذا القطيع‏.‏ وكذلك لو باع بستاناً إلاّ شجرةً غير معيّنة‏.‏ ومالك - رحمه الله - أجاز ذلك، فللبائع عنده أن يبيع البستان، ويستثني خمساً من شجراته، لأنّ البائع - في الغالب - يعرف جيّد شجر بستانه ورديئه، فلا يتوهّم فيه أنّه يختار ثمّ ينتقل، بخلاف المشتري الّذي يتوهّم فيه التّنقّل من واحدة إلى أخرى، ويؤدّي إلى التّفاضل بين الطّعامين إن كانا ربويّين أو أحدهما، لأنّ المنتقل إليه يحتمل أن يكون أقلّ من المنتقل عنه أو أكثر أو مساوياً، والشّكّ في التّماثل كتحقّق التّفاضل، ويؤدّي إلى بيع الطّعام قبل قبضه إن كانا مكيلين أو أحدهما‏.‏

- ب - لو باع هذه الصّبرة من القمح ونحوه، إلاّ قفيزاً أو رطلاً‏:‏

- جاز ذلك عند الحنفيّة ومالك، وهو رواية عن أحمد، لأنّ الثّنيا هنا معلومة، فصار كما لو استثنى منها جزءاً مشاعاً - كما سيأتي -

- ومذهب أحمد أنّه لا يجوز، لأنّ المبيع إنّما علم بالمشاهدة لا بالقدر، والاستثناء يغيّر حكم المشاهدة، لأنّه لا يدري كم يبقى في حكم المشاهدة، فلم يجز‏.‏

- ج - لو باع هذا القطيع إلاّ شاةً معيّنةً، أو باع هذا البستان إلاّ شجرةً بعينها جاز ذلك، لأنّ المستثنى معلوم، ولا يؤدّي إلى الجهالة‏.‏ والمبيع معلوم بالمشاهدة، لكون المستثنى معلوماً، فانتفى المفسد‏.‏

- د - لو باع الصّبرة إلاّ أرطالاً معلومةً‏:‏ - جاز عند الحنفيّة، لأنّه يصحّ إيراد العقد عليها، إذا علم أنّه يبقى أكثر من المستثنى، ويكون استثناء القليل من الكثير، كما لو استثنى رطلاً واحداً‏.‏ وكذا يصحّ عندهم لو كان استثناء الأرطال المعلومة من ثمر على رءوس النّخل، في ظاهر الرّواية‏.‏

- وعند أحمد - وهو رواية عن أبي حنيفة، وهي الأقيس بمذهبه - لا يجوز هنا كما في الصّورة الأولى، إن جهل المتعاقدان كمّيّة أرطالها، لأنّ الجهل بذلك يؤدّي إلى الجهل بما يبقى بعد المستثنى‏.‏

- هـ - لو استثنى جزءاً غير معيّن بل شائعاً، كربع وثلث، فإنّه صحيح بالاتّفاق، للعلم بالمبيع في أجزائه، ولصحّة إيراد العقد عليها‏.‏ ولو باعه أرضاً أو داراً أو ثوباً، إلاّ ذراعاً‏:‏ - فمذهب الشّافعيّة والحنابلة، وأحد قولين للصّاحبين من الحنفيّة أنّه‏:‏ إذا كان المتعاقدان يعلمان عدّة أذرع الأرض أو الدّار أو الثّوب، كعشرة - مثلاً - صحّ البيع، وكان المذكور مشاعاً فيها، كأنّه استثنى العشر، وإن كانا لا يعلمان ‏(‏كلاهما أو أحدهما‏)‏ لم يصحّ، لأنّ المبيع ليس معيّناً ولا مشاعاً، فيكون مجهولاً‏.‏

97 - ويمكن تطبيق قاعدة‏:‏ ما جاز إيراد العقد عليه بانفراده صحّ استثناؤه من العقد، على هذه الصّورة كما ذكرها الحنفيّة، وهي‏:‏ ما إذا باعه عشرة أذرع من دار أو أرض هي مائة ذراع، سواء أكانت تحتمل القسمة أم لا‏:‏

- فأبو حنيفة لا يجيز العقد لجهالة الموضع، لأنّ البيع وقع على قدر معيّن من الأرض لا على شائع، والدّار تتفاوت جوانبها وأجزاؤها، وهذه جهالة مفضية إلى النّزاع، وإذا لم يصحّ إيراد العقد عليه لم يصحّ استثناؤه من العقد، بخلاف مسألة الصّبرة، لعدم تفاوت أجزائها‏.‏

- والصّاحبان يقولان‏:‏ إذا سمّى جملة الذّرعان صحّ، وإلاّ لم يصحّ، للجهالة - كما تقدّم-

- والصّحيح من مذهبهما جواز العقد، وإن لم يبيّنا جملة مساحة الأرض بالذّرعان، لأنّ هذه الجهالة بيدهما إزالتها فتقاس وتعلم نسبة العشرة المبيعة منها، ويكون البيع شائعاً في الأرض كلّها‏.‏ وإذا صحّ إيراد العقد على العشرة، جاز استثناؤها منه‏.‏

98 - لو باع شاةً واستثنى حملها لم يصحّ البيع اتّفاقاً، وكذا لو استثنى بعض أعضائها، لأنّه لا يجوز إفراد المذكور بالعقد، فكذا لا يجوز استثناؤه منه، فصار شرطاً فاسداً - كما يقول ابن عابدين - وفيه منفعة للبائع، فيفسد البيع‏.‏

وجوّز الحنابلة استثناء رأس الحيوان المأكول، وجلده وسواقطه وسلبه وأطرافه، لأنّ

«النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا خرج من مكّة - أي مهاجراً - إلى المدينة، ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة رضي الله عنهما مرّوا براعي غنم، فاشتريا منه شاةً، وشرطا له سلبها» ويلحق الحضر بالسّفر عندهم كما نصّوا عليه‏.‏

وعن مالك صحّة استثناء المذكورات في السّفر دون الحضر، لأنّ المسافر لا يمكنه الانتفاع بالجلد والسّواقط، فجوّز له شراء اللّحم دونها‏.‏

أسباب النّهي غير العقديّة

99 - ويراد بها‏:‏ ما لا يتعلّق بمحلّ العقد، ولا بوصف ملازم للعقد بحيث لا ينفكّ عنه، بل يتعلّق بأمر خارج عن ذلك، فما هو بركن ولا بشرط‏.‏

ويمكن تقسيم هذه الأسباب إلى هذين النّوعين‏:‏

النّوع الأوّل‏:‏ ما يؤدّي إلى تضييق أو إيذاء أو ضرر‏:‏ مادّيّ أو معنويّ، خاصّ أو عامّ‏.‏ وذلك كالغبن، وبيع المسلم على بيع أخيه، وبيع السّلاح من أهل الحرب‏.‏

النّوع الآخر‏:‏ ما يؤدّي إلى مخالفة دينيّة بحتة، أو عباديّة محضة، كالبيع عند أذان الجمعة، وبيع المصحف من الكافر‏.‏

النّوع الأوّل‏:‏ الأسباب الّتي تؤدّي إلى الضّرر المطلق

100 - من أهمّ ما يشمله هذا النّوع، البيوع الآتية‏:‏

أ - التّفرقة بين الأمّ وبين ولدها في بيع الرّقيق‏:‏

101 - اتّفق الفقهاء على منع هذا البيع، لثبوت النّهي عنه في السّنّة فمن ذلك‏:‏ حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم «ملعون من فرّق بين والدة وولدها»‏.‏

وحديث أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من فرّق بين والدة وولدها، فرّق اللّه بينه وبين أحبّته يوم القيامة»‏.‏

مذاهب الفقهاء في حكم هذا التّفريق‏:‏

102 - هذا التّفريق غير جائز - بوجه عامّ، وعلى التّفصيل الآتي في أحواله - عند عامّة الفقهاء‏:‏

مذهب الجمهور‏:‏ مالك، والشّافعيّ وأحمد أنّ التّفريق بالبيع حرام‏.‏

وعند مالك‏:‏ يجب فسخه، وإن لم يمكن جمعهما في حوز ‏(‏أو ملك واحد‏)‏‏.‏ على تفصيل بين عقود المعاوضات وغيرها سيأتي‏:‏

وعندهما ‏(‏الشّافعيّ وأحمد‏)‏‏:‏ البيع باطل‏.‏ وفي قول للشّافعيّة‏:‏ يمنع من التّفريق‏.‏

ومذهب أبي حنيفة ومحمّد، أنّ البيع جائز مفيد للحكم بنفسه، لكنّه مكروه، والبائع آثم بالتّفريق‏.‏ ومذهب أبي يوسف أنّ البيع فاسد في الوالدين والمولودين، جائز في سائر ذوي الأرحام‏.‏ وروي عنه أنّ البيع فاسد في جميع ذلك‏.‏ وتفصيل أدلّة هذه الاتّجاهات تنظر في مصطلح ‏(‏رقّ‏)‏‏.‏

103 - هذا ومذهب الحنفيّة والحنابلة تعميم التّحريم، بحيث يشمل كلّ تفريق بين كلّ ذي رحم محرم‏.‏ ومذهب المالكيّة قصره على التّفريق بالبيع بين الأمّ الوالدة وبين ولدها الصّغير الّذي لم يثغر ‏(‏أي لم يبدّل أسنانه‏)‏ فقط‏.‏

والشّافعيّة قصروه على قرابة الولاد مهما نزل، إذا كان الولد صغيراً حتّى يميّز ويستقلّ بنفسه، في طعامه وشرابه، ولو لم يبلغ سبع سنين‏.‏ وتفصيل الأدلّة في مصطلح ‏(‏رقّ‏)‏‏.‏

حكم التّفرقة بين الحيوان الصّغير وبين أمّه‏:‏

104 - الرّاجح عند المالكيّة، جواز التّفرقة بين الحيوان البهيميّ وبين أمّه، وأنّ التّفريق الممنوع خاصّ بالعاقل‏.‏ ويروى عن ابن القاسم منهم‏:‏ المنع من التّفرقة بين الأمّ وبين ولدها في الحيوان أيضاً، وهو ظاهر الحديث، حتّى يستغني عن أمّه بالرّعي‏.‏

فعلى هذا، لو فرّق بينهما بالبيع لم يفسخ‏.‏ ويجبران على جمعهما في حوز، وليس هذا كتفريق العاقل‏.‏

105 - وهذا الّذي منع منه ابن القاسم، هو مذهب الشّافعيّة أيضاً، الّذين نصّوا على أنّ التّفريق بين البهيمة وولدها حرام‏.‏ ثمّ فصّلوا في المسألة، وقالوا‏:‏

يكره ذبح الأمّ الّتي استغنى الولد عن لبنها، ويحرم ذبحها إن لم يستغن عن لبنها، ولا يصحّ البيع ولا التّصرّف، ولو لم يكن الحيوان مأكولاً وذبح الصّغير وهو مأكول حلال قطعاً‏.‏ وبيعه ممّن يظنّ أنّه يذبحه قبل استغنائه، وكذلك بيع الأمّ قبل استغنائه باطل - وإن قال ابن حجر بحلّه - لأنّه ربّما لا يقع الذّبح حالاً أو أصلاً، فيوجد المحذور، وشرط الذّبح على المشتري غير صحيح‏.‏ نعم، إذا علم المشتري أنّ البائع نذر ذبحه، وشرط البائع على المشتري الذّبح، صحّ البيع وكان ذلك افتداءً، ووجب على المشتري ذبحه، فإن امتنع ذبحه القاضي، وفرّقه الذّابح على الفقراء‏.‏ وبيع الولد المستغني عن أمّه مكروه إلاّ لغرض الذّبح‏.‏ وذبحهما كليهما لا يحرم‏.‏ ولم نجد للحنفيّة والحنابلة كلاماً في هذه المسألة‏.‏

ب - بيع العصير لمن يتّخذه خمراً‏:‏

106 - المراد بالعصير‏:‏ عصير العنب، أي معصوره المستخرج منه‏.‏

وقد ذهب الفقهاء مذاهب مختلفة في الحكم التّكليفيّ في هذه الجزئيّة‏.‏

فذهب المالكيّة والحنابلة إلى حرمة هذا البيع، وهو الأصحّ والمعتمد عند الشّافعيّة إن كان يعلم أو يظنّ أيلولته إلى الخمر، فإن شكّ كره‏.‏ ونحوه قول للصّاحبين - أشار الحصكفيّ لتضعيفه - بأنّه مكروه، والكراهة إن أطلقت عند الحنفيّة للتّحريم‏.‏

وعبارة المالكيّة‏:‏ وحرّم على المكلّف بيع العنب لمن يعلم أنّه يعصره خمراً‏.‏ وقد استدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تَعَاونوا على الإِثمِ والعُدوانِ‏}‏ قال ابن قدامة‏:‏ وهذا نهي يقتضي التّحريم‏.‏ واستدلّوا كذلك بحديث «لعنت الخمر على عشرة أوجه‏:‏ بعينها، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وآكل ثمنها، وشاربها، وساقيها»‏.‏ ووجه الاستدلال كما يقول عميرة البرلّسيّ‏:‏ أنّه يدلّ على تحريم التّسبّب إلى الحرام‏.‏

ولما روي عن ابن سيرين، أنّ قيّماً كان لسعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه في أرض له، فأخبره عن عنب أنّه لا يصلح زبيباً، ولا يصلح أن يباع إلاّ لمن يعصره، فأمره بقلعه، وقال‏:‏ بئس الشّيخ أنا إن بعت الخمر‏.‏ ولأنّه يعقد البيع على عصر لمن يعلم أنّه يريده للمعصية، فأشبه إجارة الرّجل أمته لمن يعلم أنّه يستأجرها ليزني بها‏.‏

والقول الآخر للشّافعيّة‏:‏ أنّه مكروه‏.‏ والبيع صحيح على القولين‏.‏

وذهب أبو حنيفة إلى أنّ هذا البيع جائز، وحكاه ابن المنذر عن الحسن وعطاء والثّوريّ، ونقل عن هذا قوله‏:‏ ‏"‏ بع الحلال ممّن شئت ‏"‏ واستدلّوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحَلَّ اللّه البيعَ‏}‏ وقد تمّ بأركانه وشروطه‏.‏

ولأنّ المعصية لا تقوم بعينه، بل بعد تغيّره بشربه، وهو فعل فاعل مختار، وليس الشّرب من ضرورات الحمل، لأنّ الشّرب قد يوجد بدون الحمل، وليس الحمل من ضرورات الشّرب، لأنّ الحمل قد يوجد للإراقة والتّخليل بالصّبّ في الخلّ، فليست المعصية من لوازم الحمل، وصار كالاستئجار لعصر العنب، وهذا قياس وقولهما استحسان كما قال الكرلانيّ‏.‏ لكن يبدو أنّ المذهب - مع ذلك - أنّه مكروه تنزيهاً، وأنّه خلاف الأولى، فقد قال صاحب الهداية‏:‏ ولا بأس ببيع العصير ممّن يعلم أنّه يتّخذه خمراً وكلمة لا بأس لكراهة التّنزيه، فتركه أولى‏.‏ وقول أبي حنيفة هذا، هو المذهب عند الحنفيّة، وهو الّذي عليه المتون‏.‏

اشتراط علم البائع بقصد المشتري اتّخاذ العصير للخمر‏:‏

107 - اشترط الجمهور للمنع من هذا البيع‏:‏ أن يعلم البائع بقصد المشتري اتّخاذ الخمر من العصير، فلو لم يعلم لم يكره بلا خلاف، كما ذكره القهستانيّ من الحنفيّة، وهو صريح كلام المرغينانيّ الآنف الذّكر‏.‏ وكذلك قال ابن قدامة‏:‏ إنّما يحرم البيع إذا علم البائع قصد المشتري ذلك‏:‏ إمّا بقوله، وإمّا بقرائن مختصّة به تدلّ على ذلك‏.‏

أمّا الشّافعيّة فاكتفوا بظنّ البائع أنّ المشتري يعصر خمراً أو مسكراً، واختاره ابن تيميّة‏.‏

108 - أمّا إذا لم يعلم البائع بحال المشتري، أو كان المشتري ممّن يعمل الخلّ والخمر معاً، أو كان البائع يشكّ في حاله، أو يتوهّم‏:‏ - فمذهب الجمهور الجواز، كما هو نصّ الحنفيّة والحنابلة‏.‏ - ومذهب الشّافعيّة أنّ البيع في حال الشّكّ أو التّوهّم مكروه‏.‏

حكم بيع العصير لذمّيّ يتّخذه خمراً‏:‏

109 - إنّ مقتضى العموم والإطلاق في منع بيع العصير ممّن يتّخذه خمراً، وكذا ما علّلته الشّروح - كما يقول ابن عابدين - أنّه لا فرق بين المسلم والكافر في بيع العصير منهما، وأنّ من ذهب من الفقهاء إلى أنّ الكفّار غير مخاطبين بفروع الشّريعة، يرون جواز بيع العصير من الكافر‏.‏ والأصحّ أنّهم مخاطبون ولا فرق، وصرّح بذلك الحنابلة أيضاً‏.‏ والشّافعيّة صرّحوا بذلك، وقالوا بحرمة البيع للعاصر ولو كان كافراً، لحرمة ذلك عليه، وإن كنّا لا نتعرّض له بشرطه، أي عدم إظهاره‏.‏

الحكم في بيع العصير وشموله لغيره‏:‏

110 - عمّم جمهور الفقهاء الحكم في بيع العصير ممّن يتّخذه خمراً، ولم يقصروه على العصير، بل عدّوه إلى العنب نفسه وإلى الرّطب والزّبيب، فهي مثل العصير في التّحريم، كلّما قصد بها اتّخاذ الخمر والمسكر‏.‏

فقال الشّافعيّة‏:‏ وبيع نحو رطب، كعنب، لمتّخذه مسكراً‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ ولا يصحّ بيع ما قصد به الحرام، كعنب وكعصير لمتّخذهما خمراً، وكذا زبيب ونحوه‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ وكذا يمنع بيع كلّ شيء، علم أنّ المشتري قصد به أمراً لا يجوز‏.‏ وتردّد الحنفيّة في المسألة‏:‏

- فذهب صاحب المحيط منهم إلى‏:‏ أنّ بيع العنب والكرم ممّن يتّخذه خمراً لا يكره‏.‏

- ونقل القهستانيّ عن بعضهم‏:‏ أنّ بيع العنب هو أيضاً على الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه‏.‏ فعنده لا بأس به، وهو مكروه تنزيهاً‏.‏ وعندهما يمنع، وهو مكروه تحريماً‏.‏

حكم بيع العصير لمتّخذه خمراً، من حيث الصّحّة والبطلان‏:‏

111 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة، والحنابلة في وجه‏:‏ إلى صحّة هذا البيع‏.‏ وعلّله الشّافعيّة بأنّ النّهي - المستفاد من حديث لعن العاصر وإن كان يقتضي الكراهة أو التّحريم، لأنّ البيع سبب لمعصية متحقّقة أو متوهّمة - لا يقتضي البطلان هنا، لأنّه راجع إلى معنًى خارج عن ذات المنهيّ عنه وعن لازمها، لكنّه مقترن به، نظير البيع بعد نداء الجمعة، فإنّه ليس لذاته لا لازمها، بل هو لخشية تفويتها‏.‏

وذهب المالكيّة إلى‏:‏ أنّه يجبر المشتري على إخراجه من ملكه، من غير فسخ للبيع‏.‏

أمّا الحنابلة فنصّوا على‏:‏ أنّه إذا ثبت التّحريم، بأن علم البائع قصد المشتري الخمر بشراء العنب، بأيّ وجه حصل العلم، فالبيع باطل، وذلك لأنّه عَقَدَ على عينٍ لمعصية اللّه تعالى بها فلم يصحّ، ولأنّ التّحريم هنا لحقِّ اللّه تعالى فأفسد العقد، كبيع درهم بدرهمين‏.‏

بيع ما يقصد به فعل محرّم‏:‏

112 - ذهب الجمهور إلى أنّ كلّ ما يقصد به الحرام، وكلّ تصرّف يفضي إلى معصية فهو محرّم، فيمتنع بيع كلّ شيء علم أنّ المشتري قصد به أمراً لا يجوز‏.‏

113 - فمن أمثلته عند المالكيّة‏:‏ بيع الأمة لأهل الفساد، والأرض لتتّخذ كنيسةً أو خمّارةً، وبيع الخشب لمن يتّخذه صليباً، والنّحاس لمن يتّخذه ناقوساً‏.‏

قال الدّسوقيّ‏:‏ وكذا يمنع أن يباع للحربيّين آلة الحرب، من سلاح أو كراع أو سرج، وكلّ ما يتقوّون به في الحرب، من نحاس أو خباء أو ماعون‏.‏

وأمّا بيع الطّعام لهم، فقال ابن يونس عن ابن حبيب‏:‏ يجوز في الهدنة، وأمّا في غير الهدنة فلا يجوز‏.‏ والّذي في المعيار عن الشّاطبيّ‏:‏ أنّ المذهب المنع مطلقاً، وهو الّذي عزاه ابن فرحون في التّبصرة، وابن جزيّ في القوانين لابن القاسم‏.‏

وذكر في المعيار أيضاً عن الشّاطبيّ‏:‏ أنّ بيع الشّمع لهم ممنوع، إذا كانوا يستعينون به على إضرار المسلمين، فإن كان لأعيادهم فمكروه‏.‏

114 - ومن أمثلته عند الشّافعيّة‏:‏ بيع مخدّر لمن يظنّ أنّه يتعاطاه على وجه محرّم، وخشب لمن يتّخذه آلة لهو، وثوب حرير لرجل يلبسه بلا نحو ضرورة‏.‏ وكذا بيع سلاح لنحو باغ وقاطع طريق، وديك لمن يهارش به، وكبش لمن يناطح به، ودابّة لمن يحمّلها فوق طاقتها‏.‏ كما نصّ الشّروانيّ وابن قاسم العبّاديّ على منع بيع مسلم كافراً طعاماً، علم أو ظنّ أنّه يأكله نهاراً في رمضان، كما أفتى به الرّمليّ، قال‏:‏ لأنّ ذلك إعانة على المعصية، بناءً على أنّ الرّاجح أنّ الكفّار مخاطبون بفروع الشّريعة‏.‏

115 - ومن أمثلته عند الحنابلة‏:‏ بيع السّلاح لأهل الحرب، أو لقطّاع الطّريق، أو في الفتنة، أو إجارة داره لبيع الخمر فيها، أو لتتّخذ كنيسةً، أو بيت نار وأشباه ذلك، فهذا حرام‏.‏ قال ابن عقيل‏:‏ وقد نصّ أحمد رحمه الله تعالى - على مسائل نبّه بها على ذلك، فقال في القصّاب والخبّاز‏:‏ إذا علم أنّ من يشتري منه، يدعو عليه من يشرب المسكر، لا يبيعه، ومن يخترط ‏(‏يصنع‏)‏ الأقداح لا يبيعها ممّن يشرب فيها ‏(‏أي الخمر‏)‏ ونهى عن بيع الدّيباج ‏(‏أي الحرير‏)‏ للرّجال‏.‏

116 - ذهب أبو حنيفة إلى أنّه‏:‏ لا يكره بيع ما لم تقم المعصية به، كبيع الكبش النّطوح، والحمامة الطّيّارة، والخشب ممّن يتّخذ منه المعازف‏.‏ بخلاف بيع السّلاح من أهل الفتنة، لأنّ المعصية تقوم بعينه، وهي الإعانة على الإثم والعدوان، وإنّه منهيّ عنه‏.‏ بخلاف بيع ما يتّخذ منه السّلاح كالحديد، لأنّه ليس معدّاً للقتال، فلا يتحقّق معنى الإعانة‏.‏

وذهب الصّاحبان من الحنفيّة، إلى أنّه لا ينبغي للمسلم أن يفعل ذلك، لأنّه إعانة على المعصية، فهو مكروه عندهما، خلافاً للإمام، وليس بحرام، خلافاً لما ذهب إليه الجمهور‏.‏ وبحث الحنفيّة نظير هذه المسألة في الإجارة، كما سبق عند الحنابلة، كما لو آجر شخص نفسه ليعمل في بناء كنيسة، أو ليحمل خمر الذّمّيّ بنفسه أو على دابّته، أو ليرعى له الخنازير، أو آجر بيتاً ليتّخذ بيت نار، أو كنيسةً أو بيعةً، أو يباع فيه الخمر، جاز له ذلك عند أبي حنيفة، لأنّه لا معصية في عين العمل، وإنّما المعصية بفعل المستأجر، وهو فعل فاعل مختار كشربه الخمر وبيعها، ففي هذا يقول المرغينانيّ‏:‏ إنّ الإجارة ترد على منفعة البيت ‏(‏ونحوه‏)‏ ولهذا تجب الأجرة بمجرّد التّسليم، ولا معصية فيه، وإنّما المعصية بفعل المستأجر، وهو مختار فيه، فقطع نسبته عنه‏.‏ ويرى الصّاحبان كراهة ذلك، لما فيه من الإعانة على المعصية‏.‏ وطرح بعض الحنفيّة هذا الضّابط‏:‏ وهو أنّ ما قامت المعصية بعينه، يكره بيعه تحريماً ‏(‏كبيع السّلاح من أهل الفتنة‏)‏ وما لم تقم بعينه يكره تنزيهاً‏.‏

حكم بيع ما يقصد به فعل محرّم، من حيث الصّحّة والبطلان‏:‏

117 - ذهب الجمهور ‏(‏الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة‏)‏ وهو أيضاً احتمال عند الحنابلة إلى‏:‏ أنّ البيع صحيح، لأنّه لم يفقد ركناً ولا شرطاً‏.‏ غير أنّ المالكيّة نصّوا مع ذلك، في مسألة بيع السّلاح، على إجبار المشتري على إخراجه عن ملكه، ببيع أو هبة أو نحوهما، من غير فسخ للبيع‏.‏

يقول الدّسوقيّ‏:‏ يمنع أن يباع للحربيّين آلة الحرب، من سلاح أو كراع أو سرج، وكلّ ما يتقوّون به في الحرب، من نحاس أو خباء أو ماعون، ويجبرون على إخراج ذلك‏.‏

كما نصّ القليوبيّ من الشّافعيّة، على أنّ من باع أمةً لمن يكرهها على الزّنى، ودابّةً لمن يحمّلها فوق طاقتها، فللحاكم أن يبيع هذين على مالكهما قهراً عليه‏.‏ ومذهب الحنابلة أنّ هذا البيع باطل، لأنّه عقد على عين لمعصية اللّه تعالى بها، فلم يصحّ‏.‏

ج - بيع الرّجل على بيع أخيه‏:‏

118 - من صوره أن يتراضى المتبايعان على ثمن سلعة، فيجيء آخر، فيقول‏:‏ أنا أبيعك مثل هذه السّلعة بأنقص من هذا الثّمن، أو يقول‏:‏ أبيعك خيراً منها بثمنها أو بدونه - أي بأقلّ منه - أو يعرض على المشتري سلعةً رغب فيها المشتري، ففسخ البيع واشترى هذه‏.‏ وقد ثبت النّهي في الصّحيح عن ذلك في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يبعْ بعضُكم على بيع بعض»‏.‏ وفي لفظ آخر‏:‏ «لا يبع الرّجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلاّ أن يأذن له»‏.‏

وفي لفظ‏:‏ «لا يبع بعضكم على بيع بعض، حتّى يبتاع أو يذر»‏.‏

وفي لفظ‏:‏ «لا يبيع الرّجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، إلاّ أن يأذن له»‏.‏

وفي لفظ‏:‏ «لا يبيع بعضكم على بيع أخيه»‏.‏

حكمه‏:‏

119 - ذهب الشّافعيّة، وهو وجه محتمل عند الحنابلة إلى‏:‏ أنّ هذا البيع محرّم، لكنّه لا يبطل البيع، بل هو صحيح لرجوع النّهي إلى معنًى خارج عن الذّات وعن لازمها، إذ لم يفقد ركناً ولا شرطاً، لكنّ النّهي لمعنًى مقترن به، وهو خارج غير لازم، وهو الإيذاء هنا‏.‏ هذا تعليل الشّافعيّة‏.‏ وتعليل الحنابلة‏:‏ أنّ المحرّم هو عرض سلعته على المشتري، أو قوله الّذي فسخ البيع من أجله، وذلك سابق على البيع، ولأنّه إذا صحّ الفسخ الّذي حصل به الضّرر، فالبيع المحصّل للمصلحة أولى، ولأنّ النّهي لحقّ آدميّ، فأشبه بيع النّجش‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّ هذا البيع ونحوه من البياعات مكروه تحريماً، قال ابن الهمام‏:‏ هذه الكراهات كلّها تحريميّة، لا نعلم خلافاً في الإثم، وذلك للأحاديث المذكورة، ولما فيه من الإيحاش والإضرار‏.‏ والمذهب عند الحنابلة‏:‏ أنّه غير جائز وهو حرام، ولا يصحّ هذا البيع، بل هو باطل لأنّه منهيّ عنه، لما فيه من الإضرار بالمسلم والإفساد عليه، والنّهي يقتضي الفساد‏.‏

120 - وقيّد الشّافعيّة والحنابلة البيع المنهيّ عنه بما يلي‏:‏

- 1 - أن يكون البيع على البيع قبل لزوم البيع، وذلك لبقاء خيار المجلس أو الشّرط، وكذا بعد اللّزوم في زمن خيار العيب، إذا اطّلع المشتري على عيب، على المعتمد عندهم‏.‏ وهذا معنى قول الحنابلة‏:‏ أن يكون البيع زمن الخيارين، فلو حدث بعد مضيّ الخيار ولزوم البيع لا يحرم، لعدم تمكّن المشتري من الفسخ إذاً، ولا معنى له‏.‏

- 2 - أن يكون البيع على البيع بغير إذنه له - كما قاله القاضي زكريّا - ‏(‏أي بغير إذن البائع الأوّل، للّذي باع على بيع أخيه‏)‏‏.‏

وقيّد الحنفيّة منع البيع على بيع غيره بما إذا تراضى المتبايعان على البيع‏.‏

121 - وذكر الشّافعيّة بعض الفروع والأحكام، في هذه الجزئيّة، فقرّروا‏:‏

- أنّ الحرمة ثابتة، ولو كان المشتري مغبوناً في صفقته، إذ النّصيحة الواجبة تحصل بالتّعريف من غير بيع‏.‏ وقيّد القليوبيّ الحرمة بما إذا لم يعلم الرّضا باطناً‏.‏

- مثل البيع على البيع، أن يبيع بائع المشتري في زمن الخيار سلعةً مثل الّتي اشتراها‏.‏ وسبب المنع الخشية من أن يردّ المشتري بالخيار السّلعة الأولى، كما نصّ عليه الشّافعيّ رضي الله عنه‏.‏

- يمنع البيع على بيع غيره إلى أن يتبيّن ما يؤول إليه الأمر، بأن يلزم البيع أو يعرض المشتري عن الشّراء، فإن أعرض انتهت مدّة المنع، وجاز للغير أن يبيعه‏.‏

- مثل البيع في التّحريم على البيع غيره من بقيّة العقود، كالإجارة والعاريّة ‏(‏أي الاستعارة‏)‏ والاقتراض والاتّهاب، والمساقاة، والمزارعة، والجعالة‏.‏ قال الحنابلة‏:‏ فتحرم ولا تصحّ إذا سبقت للغير، قياساً على البيع، لما في ذلك من الإيذاء‏.‏

بل نصّ البرماويّ من الشّافعيّة أيضاً على أنّ من أنعم عليه بكتاب ‏(‏عاريّةً‏)‏ ليطالع فيه، حرم على غيره أن يسأل صاحبه فيه، أي يطلبه من صاحبه ليطالع فيه هو أيضاً، لما فيه من الإيذاء، وبنوا على هذا حرمة طلب العاريّة بعد عقدها مطلقاً‏.‏

د - السّوم، والشّراء على شراء أخيه‏.‏

122 - أمّا السّوم على السّوم فمن صوره‏:‏ ما إذا تساوم رجلان، فطلب البائع بسلعته ثمناً، ورضي المشتري بذلك الثّمن، فجاء مشتر آخر، ودخل على سوم الأوّل، فاشتراه بزيادة أو بذلك الثّمن نفسه‏.‏ لكنّه رجل وجيه، فباعه منه البائع لوجاهته‏.‏

123 - وأمّا الشّراء على الشّراء فمن صوره‏:‏ أن يأمر شخص البائع بفسخ العقد ليشتريه هو بأكثر، أو يجيء شخص إلى البائع قبل لزوم العقد، ليدفع في المبيع أكثر من الثّمن الّذي اشتري به، ليفسخ البيع ويعقد معه‏.‏

وقيّد الحنفيّة منع هذا الشّراء أو السّوم بما إذا اتّفق المتبايعان على الثّمن أو تراضيا، أو جنح البائع إلى البيع بالثّمن الّذي سمّاه المشتري، وأمّا إذا لم يجنح ولم يرضه، فلا بأس لغيره أن يشتريه بأزيد، لأنّ هذا بيع من يزيد، ولا كراهة فيه، كما سيأتي‏.‏

وقيّد الشّافعيّة المنع بأن يكون الشّراء قبل اللّزوم، أي زمن الخيار - كما عبّر القاضي - أو يكون بعد اللّزوم، وقد اطّلع على عيب - كما مرّ في البيع على بيع غيره -

أمّا الحنابلة فللسّوم على السّوم عندهم صور‏:‏

الأولى‏:‏ أن يوجد من البائع تصريح بالرّضا بالبيع، فهذا يحرم السّوم على غير المشتري‏.‏ الثّانية‏:‏ أن يظهر منه ما يدلّ على عدم الرّضا فلا يحرم السّوم‏.‏

الثّالثة‏:‏ أن لا يوجد ما يدلّ على الرّضا أو عدمه، فلا يجوز السّوم لغيره أيضاً‏.‏

الرّابعة‏:‏ أن يظهر منه ما يدلّ على الرّضا من غير تصريح‏.‏ فقال القاضي‏:‏ لا يحرم السّوم‏.‏ وقال ابن قدامة‏:‏ يحرم‏.‏ كما قيّده الشّافعيّة أيضاً بأن يكون بغير إذن له من المشتري، فلو وقع الإذن من أحدهما لم يحرم، لأنّ الحقّ لهما وقد أسقطاه، ولمفهوم الخبر السّابق‏:‏ «حتّى يبتاع أو يذر»‏.‏ وقرّروا‏:‏ أنّ المعتبر إذن المالك، لا الوليّ والوصيّ والوكيل، إن كان فيه ضرر على المالك، وأنّ موضع الجواز مع الإذن إذا دلّت الحال على الرّضا باطناً، فإن دلّت على عدمه، وأنّه إنّما أذن ضجراً وحنقاً فلا، كما قاله الأذرعيّ منهم‏.‏

حكمه‏:‏

124 - هذا الشّراء أو السّوم بهذه الصّور والقيود منهيّ عنه، غير جائز عند الجميع، لكنّه صحيح عند الجمهور، باطل عند الحنابلة إلاّ في وجه محتمل للصّحّة عندهم كالجمهور‏.‏ والحنفيّة يعنون بعدم الجواز كراهة التّحريم، لا الحرمة‏.‏

أ - فدليل الشّافعيّة، والوجه المحتمل عند الحنابلة على الحرمة مع صحّة الشّراء‏.‏ حديث

«لا يبع بعضكم على بيع بعض» المتقدّم‏.‏ فقال المحلّيّ‏:‏ وفي معناه الشّراء على الشّراء‏.‏ وأشار البهوتيّ إلى أنّ التّحريم بالقياس على البيع، ولأنّ الشّراء يسمّى بيعاً‏.‏

ولأنّ فيه إيذاءً، قال المحلّيّ‏:‏ المعنى في تحريم ذلك‏:‏ الإيذاء للعالم بالنّهي عنه‏.‏

ولأنّه إذا صحّ الفسخ الّذي حصل به الضّرر، فالبيع المحصّل للمصلحة أولى‏.‏

ولأنّ النّهي لحقّ آدميّ، فأشبه بيع النّجش‏.‏

ب - ودليل الحنفيّة على الكراهة مع صحّة الشّراء‏:‏ حديث أبي هريرة «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى أن يتلقّى الرّكبان، ولا يبيع حاضر لباد، وأن تسأل المرأة طلاق أختها، وعن النّجش والتّصرية، وأن يستام الرّجل على سوم أخيه»‏.‏

وقرّر الحنفيّة أنّ هذا الحديث نصّ في النّهي عن الاستيام، فلا حاجة - كما أوضح ابن الهمام - إلى جعل لفظ البيع في حديث‏:‏ «لا يبع أحدكم على بيع أخيه» جامعاً للبيع والشّراء مجازاً، إنّما يحتاج إلى ذلك لو لم يرد حديث الاستيام، ولأنّ في ذلك إيحاشاً وإضراراً به فيكره‏.‏ قال الكاسانيّ‏:‏ والنّهي لمعنًى في غير البيع، وهو الإيذاء، فكان نفس البيع مشروعاً، فيجوز شراؤه، ولكنّه يكره‏.‏

ج - ودليل الحنابلة على التّحريم والبطلان، أنّ هذا منهيّ عنه، والنّهي يقتضي الفساد‏.‏

125 - وفيما يلي بعض الفروع والتّفصيلات المتعلّقة بالسّوم، والشّراء على شراء الآخرين‏:‏

أ - نصّ الحنفيّة على أنّ السّوم على سوم الآخرين مكروه، ولو كان المستام عليه ذمّيّاً أو مستأمناً‏.‏ وقالوا‏:‏ ذكر الأخ في الحديث ليس قيداً، بل لزيادة التّنفير، لأنّ السّوم على السّوم يوجب إيحاشاً وإضراراً، وهو في حقّ الأخ أشدّ منعاً، فهو كما في قوله في الغيبة‏:‏ «ذِكْرُك أخاك بما يَكْره» إذ لا خفاء في منع غيبة الذّمّيّ‏.‏

وقرّر الشّافعيّة أنّ ذكر الرّجل خرج مخرج الغالب، كما أنّ تخصيص الأخ لإثارة الرّقّة والعطف عليه، وسرعة امتثاله، فغيرهما مثلهما‏.‏ فالذّمّيّ والمعاهد والمستأمن مثل المسلم‏.‏ وخرج الحربيّ والمرتدّ فلا يحرم‏.‏

ب - ألحق الحنفيّة الإجارة بالبيع في منع السّوم على السّوم، إذ هي بيع المنافع‏.‏

كما ألحق الحنابلة جملةً من العقود، كالقرض والهبة وغيرهما، قياساً على البيع، وكلّها تحرم ولا تصحّ للإيذاء‏.‏

ج - ألحق الماورديّ من الشّافعيّة بالشّراء على الشّراء، تحريم طلب السّلعة من المشتري بأكثر - والبائع حاضر - قبل اللّزوم، لأدائه إلى الفسخ أو النّدم‏.‏

د - وكذلك قاس الشّافعيّة على كلام الماورديّ في التّحريم، ما لو طلب شخص من البائع، في زمن الخيار، شيئاً من جنس السّلعة المبيعة، بأكثر من الثّمن الّذي باع به، لا سيّما إن طلب منه مقداراً لا يكمل إلاّ بانضمام ما بيع منها‏.‏

هـ -وصرّحوا أيضاً بحرمة ما ذكر، سواء أبلغ المبيع قيمته أم نقص عنها – على المعتمد عندهم -‏.‏

و - وتكلّموا أيضاً في مسألة تعريف المغبون في الشّراء بغبنه، فصرّح ابن حجر بأنّه لا محذور فيه، لأنّه من النّصيحة الواجبة، لكنّه استظهر أنّ محلّه في غبن نشأ عن نحو غشّ البائع، فلم يبال بإضراره، لأنّه آثم‏.‏ بخلاف ما إذا نشأ لا عن نحو تقصير منه، لأنّ الفسخ ضرر عليه، والضّرر لا يزال بالضّرر‏.‏ وصرّح الشّروانيّ بأنّه إذا علم المشتري الثّاني بالمبيع عيباً، وجب إعلام المشتري به، وهذا صادق بما إذا كان البائع جاهلاً بالعيب، مع أنّه لا تقصير منه حينئذ، ولا فرق بين هذا وبين الغبن، لأنّ الملحظ حصول الضّرر، وأشار إلى أنّ هذا محلّ تأمّل، ورأى أنّ وجوب النّصيحة يقتضي وجوب تعريف المغبون، وإن نشأ الغبن من تقصيره، ولكنّها تحصل بالتّعريف من غير بيع‏.‏

126 - واستثنى الفقهاء بيع المزايدة بالمناداة، ويسمّى بيع الدّلالة‏.‏ ويسمّى أيضاً‏:‏ المزايدة‏.‏ استثنوها من الشّراء على الشّراء، ومن السّوم على سوم أخيه‏.‏

وهي‏:‏ أن ينادى على السّلعة، ويزيد النّاس فيها بعضهم على بعض، حتّى تقف على آخر زائد فيها فيأخذها‏.‏ وهذا بيع جائز بإجماع المسلمين، كما صرّح به الحنابلة، فصحّحوه ولم يكرهوه‏.‏ وقيّده الشّافعيّة بأمرين‏:‏ أن لا يكون فيه قصد الإضرار بأحد، وبإرادة الشّراء، وإلاّ حرمت الزّيادة، لأنّها من النّجش‏.‏

127 - ودليل جواز بيع المزايدة‏:‏

- ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه «أنّ رجلاً من الأنصار أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسأله فقال له‏:‏ ما في بيتك شيء ‏؟‏ قال‏:‏ بلى، حِلْس يلبس بعضه، ويبسط بعضه، وقَعْب يشرب فيه الماء‏.‏ قال‏:‏ ائتني بهما‏.‏ فأتاه بهما، فأخذهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ من يشتري هذين ‏؟‏ فقال رجل‏:‏ أنا آخذهما بدرهم، قال‏:‏ من يزيد على درهم ‏؟‏ مرّتين أو ثلاثاً، فقال رجل‏:‏ أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إيّاه، وأخذ الدّرهمين، فأعطاهما الأنصاريّ، وقال‏:‏ اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوماً، فائْتني به‏.‏ فأتاه به، فشدّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثمّ قال له‏:‏ اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً‏.‏ فذهب الرّجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً، وببعضها طعاماً، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتةً في وجهك يوم القيامة‏.‏ إنّ المسألة لا تصلح إلاّ لثلاثة‏:‏ لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع»‏.‏ قال الكاسانيّ في تعليقه على هذا الحديث‏:‏ وما كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ليبيع بيعاً مكروهاً‏.‏

- والدّليل الثّاني‏:‏ أنّ المسلمين لم يزالوا يتبايعون في أسواقهم بالمزايدة‏.‏

- وأنّه بيع الفقراء، كما قال المرغينانيّ، والحاجة ماسة إليه‏.‏

- ولأنّ النّهي إنّما ورد عن السّوم حال البيع، وحال المزايدة خارج عن البيع‏.‏

وتفصيل أحكام ‏(‏المزايدة‏)‏ في مصطلحها‏.‏

هـ - النّجش‏:‏

128 - النَجْش هو بسكون الجيم مصدر، وبالفتح اسم مصدر، ومن معانيه اللّغويّة‏:‏ الإثارة‏.‏ يقال‏:‏ نجش الطّائر‏:‏ إذا أثاره من مكانه‏.‏ قال الفيّوميّ‏:‏ نجش الرّجل ينجش نجشاً‏:‏ إذا زاد في سلعة أكثر من ثمنها، وليس قصده أن يشتريها، بل ليغرّ غيره، فيوقعه فيه، وكذلك في النّكاح وغيره‏.‏

وأصل النّجش‏:‏ الاستتار، لأنّ النّاجش يستر قصده، ومنه يقال للصّائد‏:‏ ناجش لاستتاره‏.‏ وقد عرّفه الفقهاء بأن يزيد الرّجل في الثّمن ولا يريد الشّراء، ليرغّب غيره‏.‏ أو أن يمدح المبيع بما ليس فيه ليروّجه‏.‏ وقد ورد النّهي عنه، في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا تلقّوا الرّكبان، ولا يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبيع حاضر لباد، ولا تصرّوا الغنم»‏.‏ وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى عن النّجش»

أ - فمذهب جمهور الفقهاء‏:‏ أنّه حرام، وذلك لثبوت النّهي عنه، على ما سبق‏.‏ ولما فيه من خديعة المسلم، وهي حرام‏.‏

ب - ومذهب الحنفيّة‏:‏ أنّه مكروه تحريماً إذا بلغت السّلعة قيمتها، أمّا إذا لم تبلغ فلا يكره، لانتفاء الخداع‏.‏ ذلك حكمه التّكليفيّ‏.‏ أمّا حكمه الوضعيّ‏:‏

أ - فمذهب جمهور الفقهاء، من الحنفيّة والشّافعيّة، والصّحيح عند الحنابلة‏:‏ أنّ البيع صحيح، لأنّ النّجش فعل النّاجش لا العاقد، فلم يؤثّر في البيع، والنّهي لحقّ الآدميّ فلم يفسد العقد، كتلقّي الرّكبان وبيع المعيب والمدلّس، بخلاف ما كان حقّاً للّه، لأنّ حقّ العبد ينجبر بالخيار أو زيادة الثّمن‏.‏

ب - ومذهب مالك، وهو رواية عن أحمد‏:‏ أنّه لا يصحّ بيع النّجش، لأنّه منهيّ عنه، والنّهي يقتضي الفساد‏.‏ ومع ذلك فقد نصّ الفقهاء على خيار الفسخ في هذا البيع‏:‏

- فالمالكيّة قالوا‏:‏ إن علم البائع بالنّاجش وسكت، فللمشتري ردّ المبيع إن كان قائماً، وله التّمسّك به، فإن فات المبيع فالواجب القيمة يوم القبض إن شاء، وإن شاء أدّى ثمن النّجش‏.‏ وإن لم يعلم البائع بالنّاجش، فلا كلام للمشتري، ولا يفسد البيع، والإثم على من فعل ذلك‏.‏ وهذا قول عند الشّافعيّة، حيث جعلوا للمشتري الخيار عند التّواطؤ‏.‏

- والأصحّ عند الشّافعيّة أنّه لا خيار للمشتري لتفريطه‏.‏

- ويقول الحنابلة‏:‏ البيع صحيح سواء أكان النّجش بمواطأة من البائع أم لم يكن، لكن إن كان في البيع غبن لم تجر العادة بمثله فالخيار للمشتري بين الفسخ والإمضاء، كما في تلقّي الرّكبان، وإن كان يتغابن بمثله فلا خيار له‏.‏

وفيه أحكام تفصيليّة تراجع في مصطلح‏:‏ ‏(‏نجش‏)‏‏.‏

و - تلقّي الجلب أو الرّكبان أو السّلع‏:‏

129 - عبّر الحنفيّة بتلقّي الجلب، وعبّر المالكيّة بتلقّي السّلع‏.‏ قال خليل‏:‏ كتلقّي السّلع أو صاحبها‏.‏ وعبّر ابن جزيّ منهم بتلقّي السّلعة‏.‏ وعبّر الشّافعيّة والحنابلة بتلقّي الرّكبان‏.‏ والتّلقّي‏:‏ هو الخروج من البلد الّتي يجلب إليها القوت ‏(‏ونحوه‏)‏‏.‏

والجلب - بفتحتين - بمعنى الجالب، أو هو بمعنى المجلوب، فهو فعل بمعنى مفعول، وهو ما تجلبه من بلد إلى بلد، وهذا هو المراد بتلقّي السّلع في تعبير المالكيّة‏.‏

كما أنّ الرّكبان - في تعبير الشّافعيّة والحنابلة - جمع راكب، والتّعبير به جرى على الغالب، والمراد القادم ولو واحداً أو ماشياً‏.‏

حكم التّلقّي التّكليفيّ‏:‏

130 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ بيع التّلقّي محرّم، لثبوت النّهي عنه في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تلقّوا الجَلَب، فمن تلقّاه فاشترى منه، فإذا أتى سيّده ‏"‏أي صاحبه‏"‏ السّوق فهو بالخيار»‏.‏ والحنفيّة ذهبوا إلى كراهة التّلقّي، وذلك للضّرر أو الغرر، أو كما قال الكاسانيّ‏:‏ لأنّ البيع مشروع في ذاته، والنّهي في غيره، وهو الإضرار بالعامّة على التّفسير الأوّل - الّذي ذكرناه عندهم - وتغرير أصحاب السّلع على التّفسير الثّاني، فإذا لم يكن هناك ضرر أو غرر فلا بأس، ولا يكره، كما صرّح بذلك المرغينانيّ والكرلانيّ والكاسانيّ والزّيلعيّ والحصكفيّ، لانعدام الضّرر‏.‏ فقول ابن قدامة‏:‏ وحكي عن أبي حنيفة أنّه لم ير بذلك بأساً، وسنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحقّ أن تتّبع‏.‏ ليس على إطلاقه‏.‏ وفسخ المكروه - من البياعات - واجب على كلّ واحد منهما، لرفع الإثم، وهي عند الإطلاق عندهم للتّحريم، كما هنا، وكما في كلّ بيع مكروه‏.‏

حكم التلقي الوضعي‏:‏

131 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أن بيع التلقي صحيح، ولا يفسد العقد به‏.‏ ونقل ابن قدامة عن ابن عبد البر أن البيع صحيح في قول الجميع، وعلل الصحة‏:‏

- بإثبات الخيار في حديث أبي هريرة السابق، والخيار لا يكون إلا في عقد صحيح‏.‏

- ولأن النهي لا لمعنى في البيع، بل يعود إلى ضرب من الخديعة، يمكن استدراكها بإثبات الخيار، فأشبه بيع المصراة‏.‏ وفارق بيع الحاضر للبادي، فإنه لا يمكن استدراكه بالخيار، إذ ليس الضرر عليه، إنما هو على المسلمين‏.‏

- وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد، أن التلقي فاسد، وذلك لظاهر النهي‏.‏

قال ابن قدامة‏:‏ والأول أصح‏.‏

ز - بيع الحاضر للبادي‏:‏

132 - ورد النّهي عنه في أحاديث منها ما رواه جابر رضي الله عنه مرفوعاً‏:‏ «لا يبيع حاضر لباد، دعوا النّاس يرزق اللّه بعضهم من بعض»‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في المراد من بيع الحاضر للبادي‏.‏ فذهب الجمهور إلى أنّ المراد‏:‏ أن يكون الحاضر سمساراً للبادي، لما يؤدّي إليه ذلك من الإضرار بأهل البلد لارتفاع السّعر، وفسّر بغير ذلك‏.‏ وللمنع شروط وتفصيلات من حيث الجواز وعدمه والصّحّة أو البطلان‏.‏ وينظر ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏بيع الحاضر للبادي‏)‏‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ الأسباب الّتي تؤدّي إلى مخالفة دينيّة أو عباديّة محضة

أ - البيع عند أذان الجمعة‏:‏

133 - أمر القرآن الكريم بترك البيع عند النّداء ‏(‏الأذان‏)‏ يوم الجمعة، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيّها الّذين آمنوا إذا نُودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسْعَوا إلى ذِكْر اللَّه وَذَرُوا البيعَ، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏ والأمر بترك البيع نهي عنه‏.‏ ولم يختلف الفقهاء في أنّ هذا البيع محرّم لهذا النّصّ‏.‏ غير أنّ للجمعة أذانين، فعند أيّ الأذانين يعتبر مورد النّهي عن البيع‏.‏

أ - فمذهب جمهور الفقهاء، ومنهم بعض الحنفيّة كالطّحاويّ، أنّه الأذان الّذي جرى به التّوارث، ولم يكن على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو أذان خطبة الجمعة بين يدي المنبر، والإمام على المنبر، فينصرف النّداء إليه‏.‏ ولهذا قيّده المالكيّة والحنابلة بالأذان الثّاني‏.‏ واستدلّوا لذلك بما يلي‏:‏

- ما روي عن السّائب بن يزيد رضي الله عنه، قال‏:‏ «كان النّداء يوم الجمعة أوّله إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلمّا كان عثمان رضي الله عنه وكثر النّاس، زاد النّداء الثّالث على الزّوراء»‏.‏ وفي رواية «زاد الثّاني»‏.‏ وفي رواية «على دار في السّوق، يقال لها‏:‏ الزّوراء» وتسمية الأذان الأوّل في أيّامنا، أذاناً ثالثاً، لأنّ الإقامة - كما يقول ابن الهمام تسمّى أذاناً، كما في الحديث «بين كلّ أذانين صلاة» - ولأنّ البيع عند هذا الأذان يشغل عن الصّلاة، ويكون ذريعةً إلى فواتها، أو فوات بعضها‏.‏

ب - والقول الأصحّ والمختار عند الحنفيّة، وهو اختيار شمس الأئمّة، أنّ المنهيّ عنه هو البيع عند الأذان الأوّل الّذي على المنارة، وهو الّذي يجب السّعي عنده، وهو الّذي رواه الحسن عن أبي حنيفة - رحمه الله تعالى - إذا وقع بعد الزّوال‏.‏

وعلّلوه بحصول الإعلام به‏.‏ ولأنّه لو انتظر الأذان عند المنبر، يفوته أداء السّنّة وسماع الخطبة، وربّما تفوته الجمعة إذا كان بيته بعيداً من الجامع‏.‏

بل نقل الطّحاويّ عن صاحب البحر قوله، فيما ذهب إليه الطّحاويّ‏:‏ وهو ضعيف‏.‏

ج - وهناك رواية عن الإمام أحمد، حكاها القاضي عنه، وهي‏:‏ أنّ البيع يحرم بزوال الشّمس، وإن لم يجلس الإمام على المنبر‏.‏

وهذه الرّواية قريبة من مذهب الحنفيّة، لكنّ ابن قدامة قرّر أنّها لا تصحّ من وجوه، وهي‏:‏ أنّ اللّه تعالى علّق النّهي عن البيع على النّداء، لا على الوقت‏.‏ ولأنّ المقصود بهذا إدراك الجمعة، وهو يحصل بالنّداء عقيب جلوس الإمام على المنبر، لا بما ذكره القاضي، وهو زوال الشّمس، وإن لم يجلس الإمام على المنبر‏.‏ ولأنّه لو كان تحريم البيع معلّقاً بالوقت، لما اختصّ بالزّوال، فإنّ ما قبله وقت أيضاً، لأنّ وقت الجمعة عند أحمد هو ما بين ارتفاع الشّمس قدر رمح إلى آخر وقت الظّهر‏.‏

الحكم التّكليفيّ فيه‏:‏

134 - جمهور الفقهاء على أنّ النّهي عن البيع عند الأذان هو للتّحريم، صرّح به المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ أمّا الحنفيّة فقد ذكروا أنّ أقلّ أحوال النّهي الكراهة، وأنّ ترك البيع واجب، فيكره تحريماً من الطّرفين‏:‏ البائع والمشتري على المذهب، ويصحّ إطلاق الحرام عليه، كما عبّر المرغينانيّ ويفترض تركه، كما عبّر الشّرنبلاليّ‏.‏

قيود تحريم هذا البيع‏:‏

135 - إنّ هذا النّهي الّذي اقتضى التّحريم أو الكراهة، مقيّد بقيود‏:‏

أ - أن يكون المشتغل بالبيع ممّن تلزمه الجمعة، فلا يحرم البيع على المرأة والصّغير والمريض، بل نصّ الحنفيّة على أنّ هذا النّهي قد خصّ منه من لا جمعة عليه‏.‏ ومع ذلك، فقد ذكر ابن أبي موسى - من الحنابلة - روايتين في غير المخاطبين، والصّحيح عندهم أنّ التّحريم خاصّ بالمخاطبين بالجمعة‏.‏ وذلك‏:‏ لأنّ اللّه تعالى إنّما نهى عن البيع من أمره بالسّعي، فغير المخاطبين بالسّعي لا يتناولهم النّهي‏.‏ ولأنّ تحريم البيع معلّل بما يحصل به من الاشتغال عن الجمعة، وهذا معدوم في حقّهم‏.‏

ب - وأن يكون المشتغل بالبيع عالماً بالنّهي، كما نصّ عليه الشّافعيّة‏.‏

ج - انتفاء الضّرورة إلى البيع، كبيع المضطرّ ما يأكله، وبيع كفن ميّت خيف تغيّره بالتّأخير، وإلاّ فلا حرمة، وإن فاتت الجمعة - كما يقول الجمل من الشّافعيّة‏.‏

د - أن يكون البيع بعد الشّروع في أذان الخطبة - كما عبّر الجمهور - أو عنده - كما عبّر المالكيّة أيضاً‏.‏

هـ - ولم يتعرّض الحنفيّة للتّقييد بغير كون الأذان بعد الزّوال‏.‏

قياس غير البيع من العقود عليه في التّحريم‏:‏

136 - النّهي عند الجمهور شامل البيع والنّكاح وسائر العقود‏.‏ بل نصّ الحنفيّة على وجوب ترك كلّ شيء يؤدّي إلى الاشتغال عن السّعي إلى الجمعة، أو يخلّ به‏.‏

ونصّ المالكيّة على أنّه يفسخ بيع وإجارة وتولية وشركة وإقالة وشفعة، لا نكاح وهبة وصدقة وكتابة وخلع‏.‏

ونصّ الشّافعيّة على حرمة الاشتغال بالعقود والصّنائع وغيرها، ممّا فيه تشاغل عن الجمعة‏.‏ وفي قول عند الحنابلة‏:‏ أنّه يحرم غير البيع من العقود، كالإجارة والصّلح والنّكاح، لأنّها عقود معاوضة فأشبهت البيع‏.‏

والمذهب عند الحنابلة‏:‏ تخصيص عقد البيع والشّراء فقط بالتّحريم وعدم الصّحّة، بعد الشّروع في الأذان الثّاني، فتصحّ عندهم سائر العقود من النّكاح والإجارة والصّلح وغيرها، من القرض والرّهن والضّمان ‏(‏الكفالة‏)‏ ونحوها‏.‏ لأنّ النّهي ورد في البيع وحده، وغيره لا يساويه لقلّة وقوعه، فلا تكون إباحته ذريعةً لفوات الجمعة، ولا يصحّ قياسه عليه‏.‏ ونصّوا على أنّ إمضاء البيع الّذي فيه خيار، أو فسخه يصحّ، ولا يعتبر مجرّد الإمضاء والفسخ في الخيار بيعاً‏.‏

استمرار تحريم البيع حتّى انقضاء الصّلاة‏:‏

137 - لا يكاد الفقهاء يختلفون في أنّ النّهي عن البيع عند الأذان، يستمرّ حتّى الفراغ من الصّلاة، ومن نصوصهم في ذلك‏:‏

- ويحرم البيع والنّكاح وسائر العقود، من جلوس الخطيب إلى انقضاء الصّلاة‏.‏

- يستمرّ التّحريم إلى الفراغ من الجمعة‏.‏

- ويستمرّ تحريم البيع والصّناعات من الشّروع في الأذان الثّاني أو من الوقت الّذي إذا سعى فيه أدركها من منزل بعيد، إلى انقضاء الصّلاة‏.‏

أحكام عامّة في البيع عند الأذان‏:‏

أوّلاً‏:‏ حكم بيع من تلزمه الجمعة ممّن لا تلزمه‏:‏

138 - قرّر الفقهاء أنّ من لا تجب عليه الجمعة مستثنًى من حكم تحريم البيع عند الأذان، إذا لم تجب الجمعة عليهما معاً، فلو تبايع اثنان ممّن لا تلزمهم الجمعة، لم يحرم ولم يكره - كما صرّح به الشّافعيّة - أمّا لو وجبت على أحدهما دون الآخر‏:‏

- فمذهب الجمهور من الحنفيّة والشّافعيّة، أنّهما يأثمان جميعاً، لأنّ الأوّل الّذي وجبت عليه ارتكب النّهي، والآخر الّذي لم تجب عليه أعانه عليه‏.‏

- وفي قول ضُعِّف عند الشّافعيّة‏:‏ أنّه يكره للآخر الّذي لم تجب عليه، ولا يأثم‏.‏

- ونصّ المالكيّة على أنّ البيع وغيره يفسخ في هذه الحال، حيث كانت ممّن تلزمه الجمعة، ولو مع من لا تلزمه‏.‏

- ونصّ الحنابلة على أنّ البيع لا يصحّ بالنّسبة إلى من تلزمه الجمعة‏.‏ ويكره البيع والشّراء للآخر الّذي لا تلزمه، لما فيه من الإعانة على الإثم‏.‏

ثانياً‏:‏ حكم التّبايع حال السّعي إلى الجامع وقد سمع النّداء‏:‏

139 - اختلف الفقهاء في هذه المسألة، بسبب تحصيل السّاعي المقصود من النّهي مع التّلبّس بالنّهي عنه‏.‏

أ - فالرّاجح من مذهب الحنفيّة، ومذهب الشّافعيّة، وهو أحد قولين للمالكيّة‏:‏ أنّهما إذا تبايعا وهما يمشيان، لا يحرم‏.‏ وقال ابن نجيم من الحنفيّة، نقلاً عن السّراج‏:‏ لا يكره إذا لم‏.‏ يشغله‏.‏ وقال الحصكفيّ‏:‏ لا بأس به‏.‏

لكنّ النّهي عن البيع ورد مطلقاً فتخصيصه بالرّأي ببعض الوجوه نسخ على قاعدة الحنفيّة، فلا يجوز بالرّأي، وعلّل انتفاء الكراهة‏:‏ بأنّ النّهي عن البيع عند الأذان، معلّل بالإخلال بالسّعي، فإذا انتفى الإخلال بالسّعي انتفى النّهي‏.‏

وأنّ النّصّ الكريم خصّ منه من لا جمعة عليه، والعامّ إذا دخله التّخصيص صار ظنّيّاً، فيجوز تخصيصه ثانياً بالرّأي، أي بالاجتهاد‏.‏ والمالكيّة علّلوا الجواز‏:‏ بأنّ البيع في هذه الحال لم يشغلهما عن السّعي، ونقلوه عن ابن عمر رضي الله عنهما‏.‏

ب - ومذهب بعض الحنفيّة - كصاحب النّهر والزّيلعيّ، والحصكفيّ أوّلاً في باب الجمعة والشرنبلالي - وجوب ترك البيع، ولو مع السّعي‏.‏ وصرّح صاحب النّهر بأنّه الّذي ينبغي التّعويل عليه‏.‏ وهذا نفسه قول آخر أيضاً للمالكيّة، وهو الّذي يبدو من كلام الحنابلة، وإن لم يواجهوا هذه المسألة بذاتها‏.‏

ولا تعليل لهذا الاتّجاه، إلاّ ما ذهب إليه الشّرنبلاليّ من الحنفيّة، من أنّه يخلّ بالسّعي، فيجب تركه لإطلاق الأمر‏.‏ وما ذهب إليه بعض المالكيّة، من سدّ الذّريعة‏.‏

ثالثاً‏:‏ حكم البيع في المسجد بعد السّعي‏:‏

140 - الفقهاء متّفقون على كراهته‏:‏

أ - فقد نصّ الحنفيّة على أنّ البيع على باب المسجد أو فيه عند الأذان الأوّل الواقع بعد الزّوال أعظم وزراً من البيع ماشياً إلى الجمعة‏.‏

ب - ونصّ الشّافعيّة على أنّ حرمة البيع ونحوه، في حقّ من جلس له في غير المسجد، أمّا إذا سمع النّداء فقعد في الجامع، أو في محلّ قريب منه وباع، لا يحرم‏.‏ لكنّ البيع في المسجد مكروه، وصرّح ابن حجر وغيره بأنّ كلامهم للتّحريم أقرب‏.‏

ج - ونصّ الحنابلة على كراهة شرب الماء بعد النّداء، بثمن حاضر أو في الذّمّة ‏(‏كما يحدث في الحرمين‏)‏ بل أشاروا إلى أنّ مقتضى عدم صحّة البيع والشّراء بعد الشّروع في النّداء هو التّحريم، وخصوصاً إذا كان هذا في المسجد، إلاّ أن يقال‏:‏ ليس هذا بيعاً حقيقةً، بل هو إباحة، ثمّ تقع الإنابة عنها‏.‏

رابعاً‏:‏ حكم البيع قبل الأذان الثّاني، بعد الزّوال‏:‏

141 - المعتبر عند الحنفيّة في وجوب السّعي وترك البيع، هو دخول الوقت، ولهذا قيّدوا به الأذان فيما تقدّم، فانبغى بذلك ثبوت كراهة البيع بعد الزّوال، وانتفاؤها قبله‏.‏

وقد نصّ الشّافعيّة - كذلك - على كراهة البيع ونحوه، قبل الأذان الثّاني والجلوس للخطبة إذا كان بعد الزّوال، وذلك لدخول وقت الوجوب، أمّا العقد قبل الزّوال فلا يكره‏.‏

وهذان الحكمان مقيّدان عندهم، بما إذا كان العاقد لا يلزمه السّعي حينئذ، وإلاّ بأن كان لا يدرك الجمعة إلاّ بذهابه في هذا الوقت، فيحرم عليه ذلك العقد‏.‏

خامساً‏:‏ شمول النّهي كلّ ما يشغل عن الجمعة‏:‏

142 - الفقهاء متّفقون على تحريم أو كراهة كلّ ما يشغل عن السّعي إلى الجمعة بعد النّداء - على اختلافهم فيه - ويجب ترك كلّ شيء يشغل عن السّعي إليها‏:‏ كإنشاء السّفر عند النّداء، والأكل، والخياطة، والصّناعات كلّها‏:‏ كالمساومة، والمناداة، والكتابة، وكذا الاشتغال بالعبادة، وكذا المكث في بيته بعياله أو غيرهم، ولو كان منزله بباب المسجد أو قريباً منه، بل يجب عليه المبادرة إلى الجامع عملاً بالآية‏.‏

سادساً‏:‏ هل المعتبر في الأذان أوّله أو تمامه ‏؟‏

143 - نصّ المالكيّة على أنّ المعتبر في الأذان بأوّله لا بتمامه، فإن كبّر المؤذّن حرم البيع، لأنّ التّحريم متعلّق بالنّداء‏.‏

الحكم الوضعيّ فيه‏:‏

144 - جمهور الفقهاء من الحنفيّة والشّافعيّة، وبعض المالكيّة، يرون أنّ عقد البيع يقع صحيحاً، لأنّ المنع منه لمعنًى في غير البيع، خارج عنه، وهو ترك السّعي، فكان البيع في الأصل مشروعاً جائزاً، لكنّه يكره تحريماً، لأنّه اتّصل به أمر غير مشروع، وهو ترك السّعي‏.‏

ويتفرّع عن صحّة البيع الأمور التّالية‏:‏

أ - عدم وجوب فسخه، في أحد قولين عند الحنفيّة، وأحد قولين عند المالكيّة أيضاً، فقد قال الشّيخ العدويّ‏:‏ وهناك قول آخر يقول‏:‏ لا فسخ، والبيع ماض، ويستغفر اللّه‏.‏

ب - وجوب الثّمن لا القيمة‏.‏

ج - ثبوت ملك المبيع قبل القبض‏.‏ لكنّ مشهور مذهب المالكيّة‏:‏ أنّ هذا البيع كالبيع الفاسد يفسخ، ويردّ من يد المشتري ما لم يفت بيده، فإن فات - بتغيّر سوق - مضى العقد، ولزم المشتري القيمة حين القبض على المشهور‏.‏ وقيل بالقيمة حين البيع‏.‏ والّذين نصّوا من المالكيّة على وجوب فسخ البيع، ألحقوا به نحو البيع، من الإجارة والشّركة والإقالة والشّفعة - إذا أخذ بها، لا لو تركت - لكنّهم استثنوا مثل‏:‏ النّكاح والهبة والصّدقة والعتق، فلا يفسخ شيء من ذلك، وإن حرم‏.‏

والفرق بين هذه المذكورات، وبين البيع ونحوه عندهم هو‏:‏ أنّ البيع ونحوه ممّا فيه العوض، يرجع لكلّ عوضه بالفسخ، فلا كبير ضرر فيها، بخلاف ما لا عوض فيه، فإنّه يبطل أصلاً لو فسخ‏.‏ وذكر العدويّ في النّكاح علّةً أخرى، وهي حصول الضّرر بفسخه، فربّما يتعلّق أحد الزّوجين بصاحبه‏.‏

وهبة الثّواب عندهم ‏(‏وهي الّتي تنعقد بشرط المكافأة كما يعبّرون، أو بشرط العوض، كما يعبّر الحنفيّة وآخرون‏)‏ كالبيع‏.‏ والخلع ينبغي أن يمضي ولا يفسخ، على مقتضى العلّة المتقدّمة، وهي أنّه يبطل أصلاً لو فسخ‏.‏ أمّا الحنابلة فقد صرّحوا‏:‏ بأنّ البيع لا يصحّ قليله وكثيره، ولا ينعقد للّذي في النّصّ الكريم، وهو ظاهر في التّحريم‏.‏

ب - بيع المصحف للكافر‏:‏

145 - اتّفق الفقهاء على أنّ هذا البيع ممنوع، وصرّح جمهورهم بالحرمة، ويبدو من كلام الحنفيّة ثبوت الكراهة، وهي بمقتضى قواعدهم وتعليلهم للتّحريم‏.‏

يقول المالكيّة‏:‏ يحرم على المالك أن يبيع للكافر مصحفاً أو جزأه، وهذا ممّا لا خلاف فيه، لأنّ فيه امتهان حرمة الإسلام بملك المصحف‏.‏ وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يَجْعَل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏‏.‏ وأصل هذا التّعليل يرجع إلى ما روي في الصّحيح عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنه «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدوّ»‏.‏ ومع ذلك اختلف الفقهاء في صحّة هذا البيع‏:‏

أ - فالأظهر عند الشّافعيّة، ومذهب الحنابلة، وهو قول عند المالكيّة‏:‏ عدم صحّة بيع المصحف لكافر، وذلك لقوله تعالى ‏{‏ولا تعاونوا على الإثم والعدوان‏}‏ ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم «نهى عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدوّ مخافة أن تناله أيديهم»، فلا يجوز تمكينهم منه‏.‏ ولأنّه يمنع الكافر من استدامة الملك عليه، فمنع من ابتدائه كسائر ما لا يجوز بيعه، ولما في ملك الكافر للمصحف ونحوه من الإهانة‏.‏

وفرّع المالكيّة على هذا فسخ البيع إذا كان المبيع قائماً، ونسب هذا الرّأي سحنون إلى أكثر أصحاب مالك‏.‏ ولم يشترط المالكيّة الإسلام - كما يقول ابن جزيّ - في البيع إلاّ في شراء العبد المسلم، وفي شراء المصحف‏.‏

ب - ومذهب الحنفيّة، ومشهور مذهب المالكيّة، وهو قول عند الشّافعيّة‏:‏ أنّ بيع المصحف للكافر صحيح، لكنّه يجبر على إخراجه من ملكه، وذلك لحفظ كتاب اللّه عن الإهانة - كما نقل ابن عابدين عن الطّحاويّ - ولأنّ فيه امتهان حرمة الإسلام بملك المصحف - كما يقول الخرشيّ - ولا خلاف في التّحريم‏.‏ كما قال عميرة‏.‏

ملحقات بالبيع

146 - وكما يمنع بيع المصحف لهم - يمنع التّصدّق به عليهم، وهبته منهم - كما نصّ عليه المالكيّة - وكذا ارتهانه منهم - كما نصّ عليه الحنابلة‏.‏ والأوّلون يجبرونهم على إخراجه من ملكهم كما في البيع، نصّ عليه الدّسوقيّ، ولا ينبغي أن يخالف فيه الآخرون‏.‏

مستثنيات من البيع

147 - واستثنى الشّافعيّة من حكم بيع المصحف، أشياء‏:‏

- الدّراهم والدّنانير، الّتي نقش عليها شيء من القرآن للحاجة‏.‏

- شراء أهل الذّمّة الدّور، وقد كتب في جدرانها أو سقوفها شيء من القرآن لعموم البلوى، فيكون مغتفراً للمسامحة به غالباً، إذ لا يكون مقصوداً به القرآنيّة‏.‏

- واستثنى بعضهم - كابن عبد الحقّ - التّميمة لمن يرجى إسلامه، وكذا الرّسالة اقتداءً بفعله صلى الله عليه وسلم‏.‏

- وكذا استثنوا الثّوب المكتوب عليه شيء من القرآن، لعدم قصد القرآنيّة بما يكتب عليه، إلاّ أن يقال‏:‏ الغالب فيما يكتب على الثّياب التّبرّك بلا لبس، فأشبه التّمائم، على أنّ في ملابسته لبدن الكافر امتهاناً له، بخلاف ما يكتب على السّقوف‏.‏

والّذي يأمر بإزالة ملك الكافر للمصحف، هو الحاكم لا آحاد النّاس، وذلك لما فيه من الفتنة، كما نصّ عليه الشّافعيّة فيما يشبه هذه المسألة‏.‏

حكم بيع المسلم المصحف وشرائه له

148 - أ - نصّ الشّافعيّة على أنّ بيع المسلم المصحف وشراءه له مكروه، والمراد بالمصحف هنا خالص القرآن‏.‏ ووجه الكراهة - كما يذكر الشّيخ عميرة - هو صون القرآن الكريم عن أن يكون في معنى السّلع المبتذلة، بالبيع والشّراء‏.‏ وهذا أيضاً رواية عن الإمام أحمد‏.‏ ولأنّ المقصود منه كلام اللّه تعالى، فتجب صيانته عن الابتذال، وفي جواز شرائه التّسبّب إلى ذلك والمعونة عليه‏.‏

- ب - وفي قول آخر للشّافعيّة‏:‏ أنّه يكره البيع بلا حاجة دون الشّراء‏.‏ وصرّح القليوبيّ والجمل بأنّ هذا هو المعتمد عندهم‏.‏ وعلّله الجمل بأنّ في الشّراء تحصيلاً بخلاف البيع فإنّه تفويت وابتذال وانقطاع رغبة‏.‏

وهذا الّذي اعتمده الشّافعيّة، هو أيضاً رواية عن الإمام أحمد، وقرّر المرداويّ في مسألة الشّراء وجوازه‏:‏ أنّها المذهب، وعلّلوها بأنّ الشّراء استنقاذ للمصحف فجاز، كما جاز شراء رباع مكّة واستئجار دورها، ولم يجز بيعها ولا أخذ أجرتها، وكذلك دفع أجرة الحجّام لا يكره، مع كراهة كسبه‏.‏ بل جعله البهوتيّ كشراء الأسير‏.‏

ج - وفي رواية عن الإمام أحمد‏:‏ أنّ بيع المصحف لا يجوز ولا يصحّ‏.‏ قال المرداويّ‏:‏ وهو المذهب كما روي عنه أنّه يحرم الشّراء، وإن لم يذكرها بعضهم‏.‏ وعلّل عدم الجواز‏:‏ - بأنّ أحمد قال‏:‏ لا أعلم في بيع المصاحف رخصةً‏.‏

- وبأنّه هو المرويّ عن الصّحابة، ولم يعلم لهم مخالف في عصرهم‏.‏

- ولأنّه يشتمل على كتاب اللّه، فتجب صيانته عن البيع والابتذال‏.‏

د - وهناك رواية عن الإمام أحمد، أنّ بيع المصحف جائز من غير كراهة‏.‏ قال المرداويّ‏:‏ ذكرها أبو الخطّاب‏.‏ وأسند الحنابلة جواز بيع المصحف، والتّرخيص فيه أيضاً إلى الحسن وعكرمة والشّافعيّ وأصحاب الرّأي، وعلّلوه لهم، بأنّ البيع يقع على الورق والجلد، وبيعه مباح‏.‏ وهناك روايتان عن الإمام أحمد في كراهة مبادلته‏.‏ واختيار أحمد جواز إبدال المصحف بمثله، لأنّه لا يدلّ على الرّغبة عنه، ولا على الاستبدال به بعوض دنيويّ، بخلاف أخذ ثمنه‏.‏

ومن هذا العرض يتّضح أنّ للإمام أحمد - بالإجمال - ثلاثة أقوال في بيع المصحف‏:‏ الحرمة والكراهة والجواز‏.‏ ومثلها في الشّراء‏.‏ وفي المبادلة قولان‏.‏ وأنّ المذهب - كما يؤخذ من كلام ابن قدامة والبهوتيّ - هو تحريم البيع، وعدم الصّحّة، وهذا معلّل أيضاً بقول ابن عمر‏:‏ وددت أنّ الأيدي تقطع في بيعها، ولأنّ تعظيمه واجب، وفي البيع ترك التّعظيم وابتذال له‏.‏ ولا يكره الشّراء لأنّه استنقاذ، ولا الاستبدال بمصحف آخر، لأنّه لا دلالة فيه على الرّغبة عنه‏.‏

آثار البيع المنهيّ عنه

149 - إنّ الأصل في النّهي عند الجمهور هو البطلان، فيجري على هذا الأصل إلاّ عند الضّرورة، والضّرورة مقتصرة على ما إذا دلّ الدّليل على أنّ النّهي لمعنًى‏.‏ مجاور للمنهيّ عنه فقط، أمّا إذا دلّ الدّليل على أنّ النّهي لمعنًى في الوصف اللّازم، فلا ضرورة للخروج على الأصل، ولا في أن لا يجري النّهي على أصله، وهو البطلان، لأنّ بطلان الوصف اللّازم يوجب بطلان الأصل، بخلاف المجاور لما أنّه ليس بلازم‏.‏

ب - وعند الحنفيّة الأصل في التّصرّف المنهيّ عنه أن يكون موجوداً صحيحاً شرعاً، فيجري النّهي على هذا الأصل، إلاّ عند الضّرورة، والضّرورة عندهم منحصرة فيما إذا دلّ الدّليل على أنّ النّهي لمعنًى في ذات المنهيّ عنه، أو في جزئه فقط، أمّا إذا دلّ الدّليل على أنّ النّهي لمعنًى في وصف لازم، فلا ضرورة في الخروج على الأصل، ولا في أن لا يجري النّهي على أصله، وهو الصّحّة، لأنّ صحّة الأجزاء والشّروط فيه كافية لصحّة الشّيء، وترجيح الصّحّة بصحّة الأجزاء أولى من ترجيح البطلان بالوصف الخارجيّ، وإذا لم تكن الضّرورة قائمةً، يجري النّهي على أصله، وهو أن يكون المنهيّ عنه موجوداً شرعاً، أي صحيحاً‏.‏

الفرق بين الاصطلاحات الثّلاثة‏:‏ الفساد والبطلان والصّحّة

150 - اتّضح ممّا سبق أنّ الجمهور لا يفرّقون بين الفساد وبين البطلان، خلافاً للحنفيّة‏.‏ فالصّحّة هنا - في العقود، ومنها البيع - تقتضي بأن يكون العقد سبباً لترتّب آثاره المطلوبة منه شرعاً، كالبيع بالنّسبة إلى الملك‏.‏

أمّا البطلان، فمعناه تخلّف الأحكام عن العقود، وخروج العقود عن أن تكون أسباباً مفيدةً للأحكام‏.‏ والفساد يرادف البطلان عند الجمهور‏.‏

وعند الحنفيّة‏:‏ هو قسم ثالث مغاير للصّحيح فهو‏:‏ ما كان مشروعاً بأصله غير مشروع بوصفه‏.‏ بخلاف الباطل، فهو ما كان غير مشروع بأصله ولا بوصفه‏.‏

فيستوي عند الجمهور بيع الملاقيح والمضامين، وبيع الأجنّة والميتات في البطلان‏:‏ كبيع الثّمر قبل بدوّ صلاحه، وكبيع الطّعام قبل قبضه، وبيع العينة، والبيع المشتمل على الرّبا، والبيع بالشّرط، فلا يترتّب على هذه البيوع كلّها أيّ أثر لها‏.‏

لكنّ الحنفيّة يقولون مفصّلين‏:‏ ببطلان بيع الملاقيح والمضامين والأجنّة والميتات، لانعدام المحلّيّة والرّكنيّة كالجمهور، وهذا هو عدم مشروعيّة الأصل بتعبيرهم، فلا يترتّب عليها أيّ أثر‏.‏ وبفساد الباقيات، لا ببطلانها‏:‏

أ - ففي البيع بشرط مثلاً النّهي راجع للشّرط، فيبقى أصل العقد صحيحاً، مفيداً للملك، لكن بصفة الفساد والحرمة، فالشّرط أمر زائد على البيع، لازم له لكونه مشروطاً في نفس العقد، وهو المراد بالوصف في هذا المقام‏.‏

ب - وفي البيع المشتمل على الرّبا يقولون‏:‏ إنّ ركن البيع، وهو المبادلة الماليّة من أهلها في محلّها موجودة، فيكون مشروعاً، لكن لم توجد المبادلة التّامّة، فأصل المبادلة حاصل، لا وصفها، وهو كونها تامّةً‏.‏ وهذا بخلاف بيع الميتة والأجنّة، لأنّها ليست بمال، ولا متقوّمةً، فهو غير مشروع أصلاً‏.‏ وفيما يلي أحكام البيع الباطل - من وجهة نظر الحنفيّة الّذين قرّروه - ثمّ أحكام البيع الفاسد، ثمّ أحكام البيع المكروه‏.‏

أوّلاً‏:‏ أحكام البيع الباطل عند الحنفيّة‏:‏

151 - لا ينعقد البيع الباطل أصلاً، وليس له وجود معتبر شرعاً، وإذا قبض المشتري المبيع فلا يكون ملكاً له‏.‏ قال الكاسانيّ‏:‏ ولا حكم لهذا البيع أصلاً، لأنّ الحكم للموجود، ولا وجود لهذا البيع إلاّ من حيث الصّورة، لأنّ التّصرّف الشّرعيّ لا وجود له بدون الأهليّة والمحلّيّة شرعاً، إذ لا وجود للتّصرّف الحقيقيّ إلاّ من الأهل في المحلّ حقيقةً، وذلك نحو بيع الميتة والدّم والعذرة والبول وبيع الملاقيح والمضامين وكلّ ما ليس بمال‏.‏

وإذا هلك المبيع عند المشتري، ففي ضمانه خلاف عند الحنفيّة‏:‏

أ - قيل‏:‏ لا يضمن، لأنّه أمانة في يده، وذلك لأنّ العقد إذا بطل بقي مجرّد القبض بإذن المالك، وهو لا يضمن إلاّ بالتّعدّي، كما نقله ابن عابدين عن الدّرر‏.‏ وقيل‏:‏ إنّ هذا قول أبي حنيفة‏.‏

ب - وقيل‏:‏ يكون مضموناً، لأنّه يصير كالمقبوض على سوم الشّراء‏.‏ واختار السّرخسيّ وغيره أن يكون مضموناً بالمثل أو بالقيمة، لأنّه لا يكون أدنى حالاً من المقبوض على سوم الشّراء‏.‏ وقيل‏:‏ إنّ هذا قول الصّاحبين‏.‏ وفي القنية‏:‏ أنّه الصّحيح، لكونه قبضه لنفسه فشابه الغصب، وفي الدّرّ‏:‏ قيل‏:‏ وعليه الفتوى‏.‏ وللتّفصيل ينظر‏:‏ ‏(‏البيع الباطل‏)‏‏.‏

ثانياً‏:‏ أحكام البيع الفاسد‏:‏

152 - ينبني على البيع الفاسد عدّة آثار هي‏:‏ انتقال الملك بالقبض، واستحقاق الفسخ لحقّ الشّرع، وعدم طيب الرّبح النّاشئ من المبيع، وقبوله للتّصحيح، وضمان المبيع بالهلاك، وثبوت الخيار فيه‏.‏ وينظر تفصيل هذه الآثار وما يتعلّق بها في مصطلح‏:‏ ‏(‏البيع الفاسد‏)‏‏.‏ هذا عند الحنفيّة‏.‏ أمّا أحكامه عند الجمهور فهي أحكام البيع الباطل لعدم تفرقتهم بينهما، وانظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏البيع الباطل‏)‏‏.‏

ثالثاً‏:‏ أحكام البيع المكروه‏:‏

153 - حكم البيع المكروه‏:‏ المنع شرعاً وترتّب الإثم، ولكنّه مع هذا صحيح‏.‏ لأنّ النّهي باعتبار معنًى مجاور للبيع، لا في صلبه، ولا في شرائط صحّته، ومثل هذا النّهي لا يوجب الفساد، بل الكراهية‏.‏ فالبيع عند الأذان للجمعة، وبيع النّجش، وبيع الإنسان على بيع أخيه، وسومه على سومه، ونحوها بيوع منهيّ عنها، وهي - كما يقول الحصكفيّ مكروهة كراهة تحريم، لكنّها صحيحة وليست باطلةً، مع النّهي عنها عند الجمهور، إلاّ في روايات عن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - وذلك لأنّ النّهي لا يرجع إلى ذات المنهيّ عنه، ولا إلى شرائط الصّحّة، بل إلى معنًى يقترن به‏.‏

154 - ومن أهمّ أحكام البيع المكروه‏:‏ - أنّه بيع صحيح، كما هو مذهب الجمهور‏.‏

- وأنّه يملك فيه المبيع قبل قبضه‏.‏

- وأنّه يجب فيه الثّمن، لا القيمة‏.‏

- وأنّه لا يجب فسخه‏.‏ وقيل‏:‏ إنّ فسخه واجب على كلّ منهما، صوناً لهما عن المحظور، ولأنّ رفع المعصية واجب بقدر الإمكان‏.‏

ووفّق ابن عابدين - رحمه الله تعالى - بين القولين بأنّ الوجوب عليها ديانةً‏.‏ بخلاف البيع الفاسد، فإنّهما إذا أصرّا عليه يفسخه القاضي جبراً عليها، ووجّهه أنّ البيع هنا صحيح، فلا يلي القاضي فسخه لحصول الملك الصّحيح‏.‏ لكن قرّر ابن جزيّ من المالكيّة، أنّه إذا كان النّهي عن البيع يتعلّق بمحظور خارج عن باب البيوع، كالبيع والشّراء في موضع مغصوب، فهذا لا يفسخ، فات أو لم يفت‏.‏ وإذا كان النّهي عن البيع، ولم يخلّ فيه بشرط مشترط في صحّة البيوع، كالبيع وقت الجمعة، وبيع الحاضر للبادي، وتلقّي الجلب، فاختلف فيه‏:‏ فقيل فسخ‏.‏ وقيل‏:‏ لا يفسخ، وقيل‏:‏ يفسخ إن كانت السّلعة قائمةً‏.‏